رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يا أهل التنوير.. شدوا الحيل


أوجه عتابًا غير رقيق بالمرة لأهل الفن والإبداع لتقصيرهم الواضح فى اتجاه المزيد من إنتاج أعمال داعمة لنشر مفاهيم التنوير ومقاومة السلبى من الفكر الأصولى
لماذا لا نتشبث عبر مراحل تاريخنا المعاصر لاستثمار فرص تحقيق طفرات نوعية كان من الممكن أن تنقلنا من حال إلى حال، والأهم أننا لا نحتاج لوصفة جديدة تُعيننا على رؤية مزايا تلك الفرص المتاحة لو أحسنا التعامل معها فى الزمن المناسب، وبالشكل المسئول المُقدر لأهمية اغتنامها؟.
أما عن الفرصة الأولى، فتتمثل فى وجود رئيس مصرى ولأول مرة فى تاريخنا يبادر ويضع من بين أولويات مشاريعه الإصلاحية، الذهاب لتفعيل تحقيق «المواطنة الكاملة» والحلم بالظفر بحالة «الاندماج الوطنى» فى الشارع المصرى.. لقد وصل الأمر بالرئيس «السيسى» إلى حد أن نسبة هائلة من مساحات خطاباته شغلتها مناشدات لكل الأجهزة المعنية أن يباشروا عملهم تجاه إبداع خطابات متجددة إعلاميًا وثقافيًا ودينيًا داعمة لتصويب الكثير من المفاهيم الخاطئة والقراءات البالية والمخيفة للعقائد وأوراق التراث والتقييم السلبى لقوانا الناعمة.. لقد استهل ولايته بمخاطبة المؤسسة الدينية ورجالها منفعلًا فى احتفال المولد النبوى وقال: «والله لأحاججكم يوم القيامة أمام الله.. إحنا محتاجين ثورة دينية». ودعا إلى محاربة التطرف الدينى، وعدم معاداة العالم.
الفرصة الثانية، تتمثل فى أن الإصلاح والتطوير وحتى إعلان الثورة الدينية التى أشار إليها رئيسنا، أن لدينا تجربة متكاملة لشعوب عاشوا من قبلنا المعاناة ودفعوا الثمن وأهدروا السنين، ولكنهم فى النهاية تجاوزوا تبعات الكارثة، وليس أمامنا إلا السؤال: لماذا رفض الغربيون العودة إلى الأصولية المسيحية؟.. لأنهم ببساطة أيقنوا وأدركوا خطورة ما ذهب إليه أصحاب مفهوم التدين الأصولى القديم، وكل العصبيات الطائفية والمذهبية التى يحملها معه أو تحت طياته، فلماذا يدفعون الثمن من جديد؟!.
وعلى رأى المثل الشعبى «إن كنتم نسيتوا ما جرى لهم، هاتوا دفاتر التاريخ واقرأوا».. لقد عاشوا مآسى حروب المذاهب المسيحية «يكفى أن نعلم أن حرب الثلاثين عامًا ١٦١٨-١٦٤٨م قد أضاعت نصف ألمانيا تقريبًا، واجتاحت معظم أنحاء أوروبا الأخرى». لقد عاشوا معنى وآلام ومعاناة تبعات الفكر الطائفى، ونفس الحدوتة المريرة إبان الحرب الأهلية الرهيبة التى جرت بين الكاثوليك والبروتستانت، عندما ظل كل منهما يرى فى عقيدته الحقيقة المطلقة والعقيدة القويمة المستقيمة، فالغير مهرطق كافر يشكل وجوده على الأرض خطورة ينبغى التخلص من وجوده على الأرض وانتشار فكره.
ويبقى السؤال عزيزى قارئ جريدتنا «الدستور» المحترم: لماذا لا نسارع بتلبية دعوة الرئيس، ولماذا لا ننتهى بسرعة من إعادة قراءة ما حدث لأهل الغرب، لنتجاوز أزمنة دفع ثمن مقاومة جراثيم التخلف واللحاق العاجل بركب التقدم مع الدول التى تجاوزته من قبلنا؟!
لعله لم يوجد فيما مضى زمن ينبغى فيه استدعاء مفاهيم ورسائل التنوير، بقدر زماننا الحالى، بعد رحلة قاسية عشناها وما زلنا نعيشها فى حرب وحشية مع قوى الغدر والخيانة والجهل والتخلف الإنسانى المتمثلة فى عصابات «داعش» ومن على شاكلتها التى طلّت علينا بكتائب ظلامية تنشر العتمة برائحة الدم ولونه، لتستحيل الرؤية وتنعدم الحركة ويموت الأمل وينتشر الإحباط لدى الناس.. أقصد الضحايا.
لماذا لا ننادى على الأقل على المستوى المصرى لعقد مؤتمر ثقافى كبير، بما لدينا الآن من خبرات رائعة فى إقامة المؤتمرات المحلية والعالمية بنجاح، لوضع ما يمكن أن نعتبره مواصفات عقد اجتماعى جديد أو وثيقة عمل بمثابة اتفاق على منهاج عمل تنفيذى تتكاتف لمباشرته الأجهزة المعنية بالتعاون مع مؤسسات المجتمع المدنى والنقابات الممثلة لأهل الفنون والثقافة والإعلام، لإنشاء كيان جديد لدعم قوانا الناعمة لإنتاج إبداعات محفزة للذهاب إلى محطات التنوير والجمال، ودعم نشر فلسفات إعمال العقل ورفض الغيبيات؟.
فى أزمنة الدعوة الأولية لعصور التنوير وضبط استخدام الخطاب الدينى، استخدم فلاسفة التنوير منهجيته العقلانية لنقد التراث الدينى ذاته. وهنا تكمن الطفرة النوعية الكبرى فى تاريخ الفكر الأوروبى. وعليه دفع فلاسفة التنوير ثمن جرأتهم الفكرية والنقدية غاليًا. فكبيرهم فولتير عاش ثلاثين عامًا فى الخارج، وهو لا يستطيع أن يزور مسقط رأسه باريس. وجان جاك روسو عاش أيضًا بعيدًا عن جنيف، بل وكان مُلاحقًا طيلة النصف الثانى من حياته، لأنه نشر أفكاره عن الدين والسياسة، وقد ظل مُهددًا لفترة طويلة حتى رحيله.
وعليه، أوجه عتابًا غير رقيق بالمرة لأهل الفن والإبداع، لتقصيرهم الواضح فى اتجاه المزيد من إنتاج أعمال داعمة لنشر مفاهيم التنوير ومقاومة السلبى من الفكر الأصولى التراثى، والذهاب بكل وسائطها وأنواعها إلى كل ربوع مصر المحروسة.. وجميعنا نتذكر تجربة الفنان عادل إمام إبان معركتنا الهائلة مع عصابات الإرهاب وحملاتهم الأولى فى صعيد مصر، وكيف ذهب بفرقته ومسرحه المؤثر ليقدم عرضه التنويرى الرائع المعد لمواجهة ويلات وبشاعات فكر ذلك التيار الظلامى، ونجاح تلك التجربة فى التأثير على وعى الجماهير وتنويرهم بفكر متجدد.