رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القسيس فى الجامع.. والشيخ فى الكنيسة


لم تكن صورة القسيس فى الجامع والشيخ فى الكنيسة حالة فريدة تتلخص فى القمص سرجيوس والشيخ مصطفى القاياتى فحسب وإنما كانت لحظة رائعة للمواطنة المصرية

لا أنسى أبدًا هذا المشهد المهم والمثير فى نهاية فيلم «بين القصرين»، مشهد صعود القسيس على منبر المسجد وخطبة الشيخ فى الكنيسة، وأتذكر النقاش الطويل وأنا طفل مع والدى، رحمة الله عليه، حول هذا المشهد المثير، وحكايات الوالد عن ثورة ١٩ وعن «الوحدة الوطنية».
الآن أسأل نفسى: ما الذى استلفت الطفل الصغير فى هذا المشهد؟! ربما نشأتى فى حى شبرا، هذا الحى العجيب الذى يمثل بحق مصر التسامح، مصر فجر الضمير، كان السبب وراء السؤال البرىء للطفل.. كما أتذكر كيف تربيتُ على سلوك الوالد الذى اعتاد أن يصحبنى فى كل عيد لتهنئة صديقه فرنك جرجس، وكان «عم» فرنك يرد لنا الزيارة والتهنئة فى عيدنا، مع تبادل الحلوى التى كنت أفرح بها وألتهمها.
سنواتٌ تمر ويصبح التاريخ مهنتى، وأجدنى مدفوعًا إلى فك ألغاز هذا المشهد المثير الذى لم يفارقنى منذ الطفولة: القسيس فى الجامع والشيخ فى الكنيسة.. من هنا بدأ تعرُّفى على تاريخ القمص سرجيوس، بطل هذه القصة، رجل الدين الواعظ فى كنيسة القللى، الصعيدى الذى استوطن شبرا، وأراد حتى الترشح لعضوية مجلس النواب عن شبرا.
بدأت قصة القمص سرجيوس مع ثورة ١٩، عندما سمع وهو جالس فى منزله أصوات المظاهرات فى الشارع، وعلم أنه تم القبض على سعد زغلول «زعيم الأمة» لأنه يطالب باستقلال مصر، هنا بعفوية بسيطة وبوطنية مُطلقة يندفع سرجيوس إلى الشارع بزيِّه الكهنوتى، ليهتف مع الجماهير: «سعد سعد... يحيا سعد».
وتهتز المظاهرة كلها لمنظر هذا الواعظ بزيِّه الكهنوتى، وتحمله الجماهير على الأكتاف، ليبدأ سرجيوس طريقه كخطيبٍ لثورة ١٩.
وفى نفس الوقت، كان الشيخ الأزهرى مصطفى القاياتى يُعيد إلى الأذهان الدور الوطنى القديم للأزهر فى الكفاح ضد الحملة الفرنسية، ليلتحم القاياتى بالجماهير، وتحمله هو الآخر على الأكتاف، ليهتف الجميع: «يحيا الهلال مع الصليب».
ويفتح الأزهر، وغيره من مساجد مصر، أبوابه لاستقبال الثوَّار، ليقف سرجيوس خطيبًا به.. وتفتح الكنائس أبوابها هى الأخرى ليقف المشايخ، وعلى رأسهم القاياتى، خطباء للثورة، فى صورةٍ تُعبِّر بحق عن المواطنة فى أبدع تجلياتها.
وتحاول السلطات الإنجليزية، التى طالما لعبت على سياسة «فرِّق تَسُد»، وأد هذه الروح الوطنية، وتقوم باعتقال القمص سرجيوس والشيخ مصطفى القاياتى، ونفيهما معًا بعيدًا عن القاهرة إلى معسكرات الجيش الإنجليزى فى رفح لعدة أشهر.. لكن الثورة تستمر، وتقوم السيدات القبطيات مع المسلمات بزيارة مسجد السيدة زينب، والهتاف باسم الوطنية المصرية.
لم تكن صورة القسيس فى الجامع والشيخ فى الكنيسة حالة فريدة تتلخص فى القمص سرجيوس والشيخ مصطفى القاياتى فحسب، وإنما كانت لحظة رائعة للمواطنة المصرية، حيث اشترك فيها العديد من المشايخ ورجال الدين، مثل القمص بولس غبريـال والشيخ أبوالعيون وغيرهما.
إنها وبحق عودة إلى مصر التاريخ.. مصر فجر الضمير.