رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رواية بالعامية تحصد جائزة أدبية



صدرت مؤخرًا رواية باللهجة العامية المصرية، ثم حصدت إحدى الجوائز مناصفة مع أديبة لها إنجازها الأدبى المرموق. لن أذكر هنا اسم الرواية ولا الكاتبة، فليس هذا ما يهمنى، بل قضية «العامية والفصحى» التى تجدد الحوار حولها فى أعقاب الفوز بالجائزة، وهى قضية متشعبة ومُركبة.
يجب النظر إليها خاصة عندما يتصور البعض أن اللهجة العامية هى «لغتنا الأم»، وأن لجنة التحكيم بمنحها الجائزة لرواية بالعامية قامت بخطوة «ثورية» ناصرت بها العامية التى خلقت عالمًا روائيًا كبيرًا، والسؤال الأول: هل هذا العالم الروائى قد ظهر بفضل كتابة العمل باللهجة العامية؟. وهل اللهجة هى التى أقامت ذلك العالم الروائى؟! لدينا جميعًا آلاف الأمثلة على أعمال غاية فى السخف كتبت بالعامية، سواء فى الشعر أو المسرح أو غيرهما، ومن ثمّ فليست اللهجة العامل الحاسم فى بناء عالم روائى كبير أو صغير. ولا أدرى على أى أساس يقال إن اللهجة العامية هى «لغتنا الأم»؟ لماذا لا نعتبر أن القبطية- مثلًا- لغتنا الأم؟ أو أنها الهيروغليفية؟ ثم ما الهدف من التفتيش عن «لغة أم» بدلًا من حل مشاكلنا باللغة التى بين أيدينا.. أم أن الهدف فقط إعلاء شأن «اللهجة العامية» على الفصحى؟ وما المراد بذلك الإعلاء؟. بداية دعنا نقول إن هناك خلطًا جسيمًا بين اللهجة العامية واللغة. فاللهجة هى ابنة الحديث اليومى، ومتغيرة، وليست لها قواعد.
أما اللغة فإنها ذات معجم لغوى ومنظومة قواعد حاكمة. والذين ينشدون سيادة «العامية» لا يمدون خيالهم لأبعد من ذلك، أى أنه بفرض سيادة «اللهجة» بصفتها لغة، فإن لهجة أخرى سوف تنشأ بالضرورة فى مواجهة تلك اللغة، ولأن اللغة تتجدد فى الحياة اليومية فقد لازمت ظاهرة «العامية والفصحى» كل لغات العالم، ولم يتخل شعب عن لغته الفصحى، بل كان يطورها بتطعيمها بالكلمات التى اخترعها الحديث اليومى فى الحياة والمعاملات. أيضًا فإن الكثيرين لا يرون أن معجم العامية المصرية، هو بنسبة تسعين بالمائة معجم الفصحى، وأن كلمات لا تحصى كالشمحطجى، وشوية، وبس، وغيرها كلها فصحى. وقد يكون من المهم الإشارة إلى موقف ثلاثة أدباء مصريين عظام من العامية، أولهم نجيب محفوظ، الذى يقول بوضوح: «أما أنى أعتبر العامية مرضًا فهذا صحيح، وهو مرض أساسه عدم الدراسة، والذى وسع الهوة بين الفصحى والعامية عندنا هو عدم انتشار التعليم، ويوم ينتشر التعليم سيزول هذا الفارق أو سيقل كثيرًا». أما يحيى حقى فيقول فى هذا الصدد: «سيجد القارئ ألفاظًا عامية غير قليلة متناثرة فى هذه المجموعة، ولا يفيد هذا أننى من أنصار العامية، بل على العكس إننى أؤمن أن الأداة الفنية الوحيدة هى اللغة الفصحى، ولكن هذا لم يمنعنى من حرية الاستعانة ببعض الألفاظ العامية». والآن إلى أديب آخر كبير هو بهاء طاهر، الذى قال: «أنا ضد الكتابة العامية، وأرى أنها ليست فى مصلحة الكاتب والأدب» وتساءل: «ما الذى تقدمه العامية وتعجز الفصحى عن تقديمه؟». وقد ظهرت الدعوة إلى الكتابة بالعامية فى مصر على يدى الألمانى دكتور ويلهلم سبيتا، الذى كان مديرًا لدار الكتب المصرية، واقترح فى كتابه «قواعد العربية العامية فى مصر» عام ١٨٨٠ الأخذ بالحروف اللاتينية للكتابة بالعامية. وأعقب ذلك ظهور متحمس بريطانى آخر هو وليم ويلكوكس، وكان مهندسًا للرى فى مصر، حين دعا إلى العامية، وقدم ترجمة لبعض مقطوعات من شكسبير بالعامية سنة ١٨٩٢، بل ترجم الإنجيل إلى العامية المصرية عام ١٩٢٥، وفى عام ١٩٠١ وضع سلدن مور القاضى الإنجليزى، كتابًا بعنوان «العربية المحكية فى مصر»، ودعا إلى كتابة العامية بحروف لاتينية هو الآخر، وتوالت بعد ذلك أبحاث ودراسات أوروبية اجتهدت كلها لتفتيت اللغة العربية ونسف مفهوم «الثقافة العربية» القائمة على لغة مشتركة. والذين يتحدثون عن أن العامية «لغتنا» لا يحددون إن كانوا يقصدون العامية القاهرية.. أم عامية الريف.. أم عامية البدو فى سيناء، أم أى عامية؟.
فإذا كنت ستعترف بأحقية عامية القاهرة، فلا بد بالضرورة أن تعترف للآخرين فى الصعيد بحقهم فى «عاميتهم»، وأن تعترف للبدو بحقهم أيضًا، ومن ثم لا تصبح لدينا لغة جامعة موحدة للشعب المصرى، وينتفى دور اللغة. فى ذلك السياق كتب خليل اليازجى فى حينه ردًا على دعوات المستعربين الأجانب فى المقتطف عام ١٨٨١ يقول: «وإذا اتفقنا على الكتابة بالعامية فأى عامية نقصد؟». وعلى حد قوله: «فإذا صححنا هذا الرأى وهممنا به، فعلى أى لغة من لغات العامة نعتمد، وبين كل لغة منها وأختها من تباين اللهجة واختلاف الأوضاع ما لا يقصر عن الفرق بين إحداها واللغة الفصحى؟ وأى تلك اللغات اخترنا الكتابة بها ستفضى بنا إلى ما فررنا منه، وعليه فلا بد من تحويل لغات البلاد إلى لغة واحدة، وإذا كان ذلك فالأولى والأسهل رد الألسنة إلى اللغة الفصيحة».
يخسر الكاتب كثيرًا بالكتابة بالعامية، ما عدا مجالات فنية تتصل اتصالًا مباشرًا بالناس كالمسرح والأغانى والشعر العامى، أما الرواية فلم يصدر منها سوى تجربة واحدة هى «قنطرة الذى كفر»، التى كتبها الدكتور مصطفى مصطفى مشرفة، أخو العالم المعروف، ونشرها عام ١٩٦٥. وقد صدرت بعد ذلك أعمال هزيلة بالعامية لم يُكتب لها النجاح أو الذكر. أقول إن الفصحى ليست بحاجة للدفاع، لكننا بحاجة إلى تصحيح نظرتنا إلى اللغة وإلى اللهجة.