رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن البطولة والأمل




ينظر الكثيرون إلى نيلسون مانديلا، أو نجيب محفوظ، أو ابن رشد، ويستمدون من بطولاتهم النضالية والفكرية الأمل، أملًا فى الصمود وأحيانًا أملًا فى الانتصار. ولقد اعتدنا أن نبحث عن البطولة بين الزعماء والثوار وقادة الفكر، لكننا قلما نرى الأمل فى الحياة اليومية البسيطة، حينما تزول البطولة «كعمل يومى لا فخر فيه ولا ادعاء»، على حد قول يوسف إدريس.
فى الحياة اليومية سنلقى بطولة الرائد مصطفى عبيد، الذى استشهد فى الخامس من يناير الحالى وهو يقوم بتفكيك «قنبلة» غرزها مجرمون على سطح مسجد «الحق» المجاور لكنيسة «العذراء مريم» بهدف تفجيرها فى احتفالات أعياد الميلاد، فافتدى مصطفى عبيد بحياته وحدة الوطن، فى صمت، بلا فخر، ولا ادعاء، ومنحنا الأمل فى أن مصر ستبقى بخير.
الأمل فى حياتنا اليومية الاعتيادية سنلقاه عند الطبيبة وسام رمزى، إخصائية القلب، التى كانت تركب القطار فى رحلتها من أسيوط إلى الإسكندرية، فى منتصف يناير الحالى، وفوجئت بصيحة استغاثة من أم تسأل إن كان بين الركاب طبيب، فتقدمت دكتورة وسام إليها وحاولت إسعاف الطفل، إلا أن حالته كانت تستلزم علاجًا بمستشفى، فطلبت الطبيبة من سائق القطار أن يوقف القطار فى أقرب محطة، فرفض وقال لها إن ذلك مستحيل التزامًا منه بالتعليمات، لكنها أصرت حتى أوقف القطار فى بنها، وهناك كانت تنتظر الطفل سيارة إسعاف حملته إلى المستشفى لتنقذ حياته. وقد كرمتها جهات كثيرة. هذه أيضًا مواطنة مصرية بسيطة تمنحنا الأمل فى أن بمصر خيرًا كثيرًا. قبل ذلك بعامين، فى مايو ٢٠١٦، عرّض أحمد فضل مرعى حياته للخطر حين قام بفصل اثنتين وعشرين عربة عن قطار بضائع اشتعل فيه حريق بسبب ما يحمله من وقود، وجنب أحمد مرعى بذلك المدينة من كارثة محققة، وإن تعرض لحروق بنسبة أربعين بالمائة حين تطايرت نحوه كتل النيران المشتعلة من عربات القطار.
هذه أيضًا بطولة أخرى، وأمل آخر، يبزغ بين بسطاء لا نعرفهم، يزاولون البطولة كعمل يومى، بلا فخر ولا ادعاء. منذ أيام قليلة كان المكوجى الشاب سيد طه طلبة يعمل داخل المحل فى شارع حسان دياب، بمنطقة البساتين، حين شاهد بلطجيًا معروفًا فى المنطقة يتحرش بفتاة فى الشارع ويحاول احتضانها رغمًا عنها وهى تصرخ وتستغيث، فهب سيد طلبة لنجدتها، ولم يمنعه أن المتحرش بلطجى خطر فتلقى طلبة عدة طعنات توفى على إثرها، وراحت حياته ليقدم لنا أملًا فى أن مصر ستبقى بخير، وأن هناك أبطالًا كثيرين لا نعرفهم.
فى صباح الثالث عشر من يناير الحالى يلمع الأمل مع اسم العميد حاتم صفوت الخشتى، مأمور قسم فى أسيوط، الذى تلقى فى العاشرة صباحًا بلاغًا باندلاع حريق فى إحدى دور الحضانة بمنطقة سيتى المواجهة لجامعة أسيوط، وأن الحريق يحاصر المعلمات ومائة طفل لا يستطيعون الخروج من المبنى. قام العميد باستدعاء المطافئ بسرعة ثم خرج على الفور بمفرده إلى أول سيارة عند باب القسم دون أن ينتظر اكتمال قوة القسم معه، واقتحم دار الحضانة المطوقة بألسنة اللهب، وأجلى المعلمات والأطفال حتى آخر طفل، وعلى حد قوله فيما بعد: «مقدرتش أمسك نفسى عن اقتحام النار والدخان طالع وأصوات الأطفال وهمّا بيصرخوا: الحقنى». وبعد أن أجلى الجميع سقط مغشيًا عليه بسبب ألسنة اللهب والدخان الذى طوقه ونقل إلى المستشفى حيث يعالج من الحروق.
هى بطولات يومية لا تتصدر شاشات التليفزيون ولا يحصد أصحابها جوائز. فى هذا السياق أذكر قصة أنطون تشيخوف «اللعوب» التى يعرض فيها لشخصية «أولجا إيفانوفنا» زوجة الطبيب «أوسيب» التى تلهث بحثًا عن المواهب اللامعة ونجوم المجتمع أملًا فى أن تلتقى ببطل، إلى أن يأتى ذات مساء أصدقاء زوجها الطبيب وهم يحملونه ويخبرونها بأنه توفى لأنه امتص الدفتيريا من حلق طفل لينقذه، فى هذه اللحظة فقط تدرك «أولجا إيفانوفنا» أن البطل الذى كانت تبحث عنه طوال الوقت كان بجوارها، تحت عينيها، لكنها لم تره. وكما يقول يوسف إدريس: «فإن المعجزات تتحقق على أيدى البسطاء، وهؤلاء هم الذين سيروى عنهم التاريخ إلى الأبد»، وستبقى مصر بخير طالما أرضها تطرح بدون فخر أو ادعاء بطولات: مصطفى عبيد، وسام رمزى، أحمد مرعى، سيد طلبة، حاتم الخشتى، من أولئك نستمد الأمل فى كل شىء.