رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ثورة 19 فى الثقافة والأدب


تستعد جهات كثيرة للاحتفال فى مارس المقبل بمئوية ثورة ١٩١٩، التى تعد إحدى أهم حلقات النضال المصرى المعاصر، بعد ثورة عرابى زعيم الفلاحين. فقد استطاعت الثورة أولًا أن تصهر وتدمج عنصرى الأمة فى خضم النضال من أجل الاستقلال والتحرر من الإنجليز، ورسخت شعارها العظيم «الدين لله والوطن للجميع»، وبزغت أغانيها فى كل ناحية «اللى الأوطان بتجمعهم عمر الأديان ما تفرقهم».
قدمت الثورة شهداءها وأبطالها من الأقباط والمسلمين، وكسحت التمييز الدينى لتعلى قيمة الوطنية، تكرر الحديث عن «عنصرى الأمة»، لأنه لم يكن لليهود المقيمين فى مصر دور فى تلك الثورة، ولا فى غيرها من حلقات التاريخ المصرى. ويذكر عبدالحميد جودة السحار فى مذكراته، أن اليهود المقيمين فى مصر لم يعتبروا قط أنهم «مصريون» وكان كل واحد منهم، حتى الذين ولدوا فى مصر، يفتخر بأصله ويقول: «أنا يونانى»، «أنا إيطالى».. إلخ. لهذا ظل اليهود خارج النسيج الوطنى المصرى وخارج حلقات النضال من أجل التحرر. ولا يذكر أحد يهوديًا واحدًا مرموقًا شارك فى الثورة، وعلى العكس من ذلك يشير الكاتب الكبير محمد عودة إلى قصة «القسيس جيورجيوس» الفقير الذى رشح نفسه للبرلمان، فخرجت وراءه جموع المسلمين والمسيحيين تهتف تأييدًا له «من غير فلوس.. يا جيورجيوس».
ولم ترسخ ثورة ١٩ شعار الاستقلال السياسى فحسب، بل استقرت بالهوية المصرية بعيدًا عن «الهوية الفرعونية» التى طواها الماضى، وعن «الانتماء للخلافة»، سواء تحت العباءة التركية أو غيرها، وشقت الثورة طريقها إلى ذاتها كمرجل تغلى فيه عناصر الأمة الواحدة. وبينما امتد تاريخ الثقافة المصرية إلى عهد محمد على، والبعثات، ورفاعة رافع الطهطاوى، وجورجى زيدان، فإن بداية الثقافة المصرية الحديثة المبدعة، التى تجاوزت مرحلة التمهيد ارتبطت بثورة ١٩ تحديدًا.
وقبل الثورة بأعوام قليلة ظهرت رواية «زينب» لهيكل، بصفتها أول رواية مصرية، وخلال سنوات الثورة أيضًا، ظهرت أيضًا للمرة الأولى «المدرسة الحديثة فى الأدب» التى أقامها يحيى حقى، ومحمود طاهر لاشين، وأحمد خيرى سعيد «ناظر المدرسة» كما لقبوه، وأيضًا حسين فوزى الذى يقول إن مقر لقاءات المدرسة كان كهفًا «يرقى إليه المرء بدرجات خمس أو ست على ناصية شارعى قنطرة الدكة وعماد الدين». وقد كانت صيحة تلك المدرسة الأدبية الجديدة، بالتوازى مع صيحة الاستقلال فى الثورة، هى «الاستقلال عن الآداب الأخرى وإقامة أدب مصرى قومى»، وبها- بعد محمد تيمور- استقر شكل القصة القصيرة المصرية. كانت ثورة ١٩ ثورة سياسية لكنها ضمت بين جوانحها كل تطلعات الثورات الفكرية والأدبية نحو وجود مصرى مستقل سياسيًا وفنيًا.
وفى ذلك السياق ظهر عبقرى المسرح الغنائى بديع خيرى، وسيد درويش، ليقوم بديع بالاعتماد على اللهجة المصرية، محطمًا كل كليشيهات التعبير النمطى، بينما يقوم سيد درويش بتمصير الموسيقى وتخليصها نهائيًا من الطابع التركى. ذلك كان أيضًا بحثًا عن موسيقى مصرية قومية، فالثورة كانت أضخم من مجرد عمل سياسى، كانت بحثًا عن الذات فى كل المجالات، ولهذا أخرجت لنا من بين أبنائها كبار المفكرين: توفيق الحكيم، وعباس العقاد، وحسين فوزى، ويحيى حقى. وبالرغم من أن نجيب محفوظ كان صبيًا سنوات الثورة، إلا أنه ظل طيلة عمره يُعد نفسه من أبنائها، وقد قال فى ذلك: «أعتبر نفسى من براعم ثورة ١٩١٩، فإذا كان للثورة رجالها الذين قادوها وشبابها الذين اشتركوا فيها، فأنا من البراعم التى تفتحت وسط لهيب الثورة وفى سنوات اشتعالها».
وقد امتد أثر ثورة ١٩ الروحى والفكرى إلى جيل الأربعينيات من القرن الماضى، لهذا نرى أن سلامة موسى، المفكر المستنير، كان باعتراف نجيب محفوظ أول من قرأ روايات محفوظ الأولى، ونصحه بأن يمزق أول ثلاث روايات كتبها محفوظ، ثم نشر لمحفوظ أولى رواياته «عبث الأقدار». وقد أشار محفوظ فى «الثلاثية» إلى تلك الصداقة التى ربطت بين المسلم والمسيحى، ولم تكن سوى أثر من آثار ثورة ١٩ التى ما زال فيها الكثير من الأوجه التى لم تبحث بالكامل بعد.