رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فن الهروب من الكتابة


الكتابة الجادة مثل الحب، انفعال مهلك، يستنفد طاقة الإنسان العصبية، لذلك حينما أتعب أحيانًا من الكتابة أجدنى، دون وعى، أسرح فى ذكريات مطوية من علاقات مع البشر، وأخرى من علاقتى بالصحافة والأدب، وخلال ذلك تروح وتجىء أمامى عبارة الشاعر العظيم رسول حمزاتوف «معذرة إن كنت قد أخطأت فى شىء، فهى المرة الأولى التى أعيش فيها على الأرض».
فى حوالى التاسعة من عمرى قررت أن أصدر مجلة سميتها «اليوم»، عينت نفسى فيها رئيس التحرير، ولم تكن سوى كراسة مدرسية نقشت على ظهرها «الثمن قرشان صاغ»، وكنت أنتظر أن يزورنا أحد أقاربنا فأناوله الكراسة وأشير له بإصبعى إلى سعر المجلة وأظل واقفًا بجواره لأحمى العدد الوحيد من المجلة وأسترده لأنه كل ثروتى! ومع أننى كنت رئيس التحرير فلم يكن بوسعى أن أرفت أحدًا من المحررين، لأننى كنت كل المحررين، ولا أن ألوم قارئًا، لأننى كنت كل القراء! فى السابعة عشرة عملت بمجلة الإذاعة والتليفزيون، وكان معنا الأديب خيرى شلبى، الذى قرر أن يصدر مجلة وأن يستكتبنا فيها، نحن زملاءه، فاشترطنا كلنا أن تظهر صورنا بحجم كبير، وأصدر خيرى شلبى عددًا واحدًا من المجلة ثم توقفت، وبرر لنا فشلها بقوله: «بسبب مناظركم وصوركم وكل واحد حاطط إيده على خده عامل لى فيها أحمد شوقى»! بعد نحو عامين انتقلت إلى مجلة «لوتس» مع الأديب إدوار الخراط ويوسف السباعى، وهناك التقيت للمرة الأولى أمل دنقل وأحمد نجم فى فيلا بالمنيل، وكان عملنا مقصورًا على تسلم الراتب يوم القبض، مع انتظام غيابنا عن العمل طوال الشهر. بعد حوالى نصف العام ثار يوسف السباعى واستدعانا وقال لنا: أنتم الثلاثة ستفسدون علىّ الموظفين الذين يتساءلون: «إشمعنى التلاتة دول ما بيجوش الشغل؟»، واقترح السباعى علينا ثلاثة حلول: إما الحضور بانتظام، أو أن نلزم بيوتنا مع وعد منه بإرسال رواتبنا إلينا، أو أن يرفتنا ويستريح!، وهنا قال له نجم: «لكن يا يوسف بيه لو رفتنى دى تبقى تالت مرة؟»، فرفع السباعى رأسه متسائلًا: «وإيه يعنى؟»، فأجابه نجم «يعنى عشان أرجع لك بعد كده لازم محلل»!، قهقه السباعى ولوح بيده يائسًا فانصرفنا ومرت الأزمة بسلام. فى تلك السنوات تعلمت أو أحببت الصحافة بفضل الأستاذ الكبير محمد عودة، فقد كانت مقالاته تختلف تمامًا عن كل ما يكتب، كانت عباراته قصيرة، موجزة، وكلماته كالرصاص وكل كلمة مشحونة بمعنى مختلف، ثم سافرت بعد ذلك إلى الاتحاد السوفيتى، وهناك كانت فرص العمل الصحفى قليلة، لكن كانت هناك مجلة تصدر بكل اللغات بما فى ذلك العربية هى «مجلة المرأة السوفيتية»، استدعتنى رئيسة تحريرها، وقالت لى إنها سمعت عنى كمترجم ممتاز وتود أن أتعاون معها. وافقت، فقد كنت طالبًا من محدودى الدخل وبحاجة لفلوس، حتى وإن كانت مبالغ هزيلة بالروبل. لكن المجلة ظلت تعهد إلىّ بمواضيع عن حالبات الأبقار اللواتى ينفذن الخطة الخمسية فى ثلاث دقائق، وعن ارتفاع معدلات الإنتاج فى مصانع الأحذية، وزيادة إنتاج البيض فى المزارع التعاونية، وما شابه ذلك، إلى أن جاء يوم قررت فيه أن أنجو بجلدى الثقافى وأن أتوقف عن ترجمة الهراء. خلال ذلك اقترحنا على اتحاد المبعوثين المصريين إصدار مجلة شفهية فكاهية باسم «على الماشى»، صرت مسئولا عنها، لكن مجلس الاتحاد، وكان معظمه من تيار الإخوان، قرر بعد فترة وقف المجلة- مع أنها شفهية- لأننى كنت أعبر عن آرائى السياسية بالنكتة! فقلت لهم: «المجلة غير مطبوعة، تُقرأ على الهواء، بذلك هذه أول مرة يصادر فيها الهواء لأسباب سياسية»! لاحقًا عملت مراسلًا لإذاعة الإمارات من موسكو، وكنت نائمًا حين حدث الانقلاب على جورباتشوف فى الفجر، بالطبع لم أكن أعلم شيئًا عن الانقلاب. فى الثامنة صباحا دق جرس الهاتف وتحدث معى زميل من الإذاعة فى الإمارات. قال لى: «لقد حدث انقلاب على جورباتشوف». قلت مدهوشا وأنا لم أفق من النوم بعد: «معقول؟». قال: «نعم». قلت: «متى؟» قال: «فى الرابعة فجر اليوم». سألته بلهفة: «ومن الذى قام بالانقلاب؟ وما أهدافه؟». صرخ الزميل فى قائلًا: «يا دكتور إحنا بنكلمك نآخد منك معلومات مش نعطيك معلومات»!!
حلّت بعد ذلك مرحلة أخرى، هى الكتابة الصحفية فى مصر، وهو حديث آخر، أستبقيه لحين تستولى علىّ من جديد الرغبة فى الهروب من الكتابة إلى الكتابة.