رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

نجيب محفوظ.. مائة وسبعة من الأعوام



لدى المثقفين والشعب الروسى عادة جميلة، لا أظن شعبًا آخر يتبعها، وربما تكون اختراعًا روسيًا قحًّا، فحينما يرحل أحد كبار كُتّابهم أو فنانيهم، فإنهم عند وداعه يلتفون حول تابوته المسجى فيه، يصفقون له معًا وهم يقولون له بصيحة جماعية متكررة: «برافو.. أحسنت.. برافو»، تحية له على حياة عامرة بالعطاء والإبداع، وتحية له لأنه استطاع أن يستصفى من عمره عملًا وإنجازًا أفاد به الآخرين.
لو كان باستطاعتى لقمت بذلك مع كاتبنا الكبير العظيم نجيب محفوظ فى ذكرى ميلاده المائة والسبعة التى تحل غدًا ١١ ديسمبر، ولصفقت له، وهتفت: «أحسنت يا أستاذ، عشت حياة غنية لم يعطلك فيها شىء، ولم يشغلك شىء عن تحقيق ما أردت».
قال «محفوظ» ذات يوم: «ربما لا تكون الكتابة الأدبية أهم شىء فى العالم، لكنها أهم شىء بالنسبة لى». إنجاز نجيب محفوظ الأدبى معروف، وكُتبت عنه مئات الكتب وربما أكثر فى مصر وفى الخارج، لكن ما يعنينى هنا هو نجيب محفوظ الشخص الذى استطاع أن يدير حياته ويتحكم فيها بحيث يحقق كل ذلك. لدى معظمنا أحلام كبيرة، لكن معظمنا لا ينجح فى تحقيق تلك الأحلام، لا لشىء، إلا لغياب الإرادة القوية والإصرار، والقدرة على توظيف ساعاته وأيامه وشهوره. وقد عاش كاتبنا الكبير حياة وصفها هو شخصيًا بأنها «حياة الرهبنة» انقطع فيها للأدب، حتى إنه كان عندما يزوره إخوته فى منزله يقضى معهم دقيقتين لا أكثر، ثم ينهض معتذرًا ليواصل عمله، أما هم وقد اعتادوا ذلك منه فيقولون له: «تفضل أنت اشتغل.. إحنا قاعدين شوية مع الأولاد».
ومعروف أيضًا كيف كان يدخن نجيب محفوظ، سيجارة واحدة كل ساعة بالضبط، وكنا حين نلتقى به فى كازينو صفية حلمى بميدان الأوبرا، نلاحظ أنه إذا أخرج سيجارة فهى الحادية عشرة صباحًا، وإذا أخرج الثانية فهى الثانية عشرة، وهكذا. وكان يسحب السجائر من علبته دون أن ينظر فى الساعة. فيما بعد منعه الأطباء من التدخين وسمحوا له بسيجارتين فقط طوال اليوم، وفى تلك السنوات الأخيرة ذهبت إليه مرة مع أخى العزيز جمال الغيطانى فى باخرة، وحين أشعل الأستاذ سيجارة وكان يقترب من التسعين، مازحه الغيطانى بقوله: «دى تالت سيجارة يا أستاذ نجيب»، فرد عليه رغم السن بحزم لطيف: «مستحيل.. دى تانى سيجارة».
وبإرادته الفولاذية تلك نجح نجيب محفوظ فى أن يقفز من زقاق صغير فى القاهرة إلى العالم أجمع، وقد أحببت شخص نجيب محفوظ الذى يمثل بحياته معجزة أخرى إلى جانب أدبه، أحببت فيه عطفه على البشر، وتواضعه، وكانت محبتى له تتزايد يومًا بعد يوم فى سنواته الأخيرة، وأنا أراقب كفاحه الجميل من أجل استمرار حياته، يومًا بعد يوم، بالتمشية، والالتقاء بالناس، وحين يكون وحده تمامًا فيستعيد الأغنيات القديمة لكى تظل ذاكرته وروحه حية. كان هذا الكفاح اليومى من أجل الحياة يضاعف محبتى له، وإعجابى به، بل ذهولى، فأتذكر قول أنطون تشيخوف: «الحياة تعطى لنا مرة واحدة، ولا بد أن يحياها المرء بقوة ووعى وجمال، فتشبث بقوة ببقايا حياتك، وأنقذها، لتحيا حياة سامية مهيبة كقبة السماء».
وعند رحيل محفوظ بكيته فى صمت حينما شاهدت صورته مبتسمًا بوداعة، وأسى خفى، كأنما يقول للزمن: «أعلم أنك ستهزمنى كما تهزم كل شىء»، وطاف فى ذهنى حينذاك أن نجيب محفوظ عاش فى وحدة رغم الضوضاء التى حوله، وهو أمر طبيعى لمن بذل كل ذلك الجهد، وأمر طبيعى أيضًا عند كاتب عظيم يدرك مأساة أن كل شىء لزوال، وأن علينا مع ذلك أن نعشق كل شىء. ولم يكن الأديب أو الأدب هو الذى أبكانى عند وداعه، لأن أدبه لم يرحل، بل الشخص الذى كافح بنبل وصمت، من أجل استمرار الحياة، والشخص الذى استطاع بإرادة فذة عبقرية أن يحقق أحلامه. فى ثلاثية نجيب محفوظ ترد عبارة «إن الرجل القوى العذب أسطورة»، وأظن أن هذه العبارة تنطبق أكثر ما تنطبق على محفوظ نفسه، الذى تحول إلى أسطورة إنسانية وأدبية، تذكرنا دائمًا بأن الحياة يمكن وينبغى أن تكون مهيبة ومنيرة كقبة السماء. فى ذكرى ميلادك أقف مع الآلاف نصفق ونهتف لك: «برافو.. أحسنت، وعشت حياة ثرية عامرة بالعطاء، والإبداع».