رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأغانى التى تؤرخ للقلب


بالمصادفة وقع بصرى فى «يوتيوب» على أشهر أغانى ديميس روسوس المسماة (فار- أواى) أى بعيدا. هزتنى الأغنية مجددا، بالقوة ذاتها، بعد نصف قرن من استماعى إليها أول مرة.
فى السبعينيات وحدت تلك الغنوة بحرا من الشباب امتد موجه من القاهرة إلى باريس مرورا بلندن وموسكو وكل عواصم العالم، شباب لم تستطع نظرية سياسية ولا فلسفية أن تربط بينه، بينما جمعت شمله أغنية روسوس، المغنى العالمى الذى نشأ وتربى فى الإسكندرية، وحينما التقيته فى مؤتمر ضخم بموسكو وحدثته بالإنجليزية قال لى بمصرية قحة: «ما تتكلم مصرى يا عم»!.
قادتنى إيقاعات غنوة «روسوس» الراقصة العذبة إلى التفكير فى أن بوسعنا أن نؤرخ بالأغانى، وبالأغانى فقط، لأهم الأحداث الانفعالية فى حياتنا، بالأغانى وليس بالكتب مثلا، وليس بالمكان، وليس بالزمان والشهر والسنة، لكن بالأغانى وحدها يمكن أن نؤرخ لأهم اللحظات فى حياتنا.
ساقتنى الأغنية إلى أن أتذكر أنه لم يبق فى شعورى من أول قصة حب حين كنت فى السابعة عشرة، سوى نغمة من أغنية «وإن رحت مرة تزور.. عش الهوى المهجور» لنجاة على، تبددت تقريبا تفاصيل علاقة الحب، ولم يبق منها سوى تلك النغمة مقترنة بوجه الفتاة وهى تنحنى علىّ وأنا راقد على سرير فى مستشفى وتقبلنى. النغمة هى التى صانت المكان والزمان والشعور. ومن سنوات الاعتقال الثلاثة بكل تفاصيلها تلاشى تقريبا كل شىء، وظلت نغمة تحتوى على كل شىء، غنوة بصوت زميل راحل هو طاهر البدرى، كان يغنى بصوته الأجش الطيب: «شتتونا فى المنافى.. واملأوا منا السجون». تبدد كل شىء، وظلت النغمة وحدها تصون كل شىء، صورة العنبر الذى جمعنا فى «طرة» ووجوه الأصدقاء والشعور بأنك مكبل.
فى الغربة سنوات الدراسة بموسكو، طاردتنى نغمة رجت بدنى وروحى، مقطع من «سمرة يا سمرة مرة فى مرة شبكنى هواك» لكارم محمود، تبددت كل تلك السنوات وظلت النغمة مؤشرا حيا فى وجدانى على الغربة. وعندما توفى والدى، تصادف أن جاءنى الخبر بينما كان التليفزيون يعرض فيلما من ثلاثية محفوظ، تغنى فيه المطربة «يا سمباتيك خالص يا مهندم.. اسمح وزورنى الليلة يا افندم»، وظلت هذه النغمة التى يفترض أنها مفرحة تجرى فى روحى إلى الأبد، لكن أسيانة حزينة.
الموسيقى، وتحديدا الأغنية، هى الأكثر تأثيرا من بين كل الفنون. لهذا لم يكن مصادفة حين سافر عبدالناصر إلى دمشق أن طلب من عبدالوهاب وعبدالحليم السفر للغناء هناك أثناء زيارته. ولهذا أيضا أرى فى الكثير من شرائط يوتيوب أطفالا صغارا فى نحو الخامسة أو أقل، يرقصون باندماج كامل مع لحن ما، لكن لو أنك قرأت على أولئك الأطفال أى قصيدة أو مقطع من قصة فإن ردود أفعالهم ستكون فاترة تماما، هذا لأن الموسيقى أقدم من اللغة، هى فى قلب الطبيعة، فى إيقاع تبدل الليل والنهار، وفى إيقاع تبدل فصول السنة، وفى إيقاع قلب الأم يسمعه الجنين قبل أن يولد. الموسيقى سابقة على الوعى، وعلى اللغة، وعلى التعبير المكتوب، لهذا تهز طفلا لن تهزه الكلمات، وتظل الموسيقى حاضنة كل الذكريات التى لا تصونها اللغة.
لا أدرى هل استقبالى للأحداث مرتبط بأغنية هو استقبال شخصى ذاتى، أم أن ذلك يحدث مع الجميع؟. لا أدرى. لكن المؤكد أن الموسيقى تظل تتصدر كل الفنون، ولهذا تكتسب موسيقى اللغة عند الكتابة الأدبية أهمية بالغة، وتنجح اللغة وتؤثر بقدر ما تحتويه من موسيقى وإيقاع. العين أيضا كانت أسبق من اللغة فى استقبال العالم وحفظ صوره، لهذا يظل الأدب مهما حاولوا تجديده فن الصورة، وما من عمل عظيم إلا وهو تصوير عظيم أو تجسيد بالصورة، وتبقى الموسيقى، والأغنية أبرز أشكالها انتشارا، تؤرخ لأحداث القلب، وتغير أحواله، وما من شىء آخر يؤرخ بهذه القوة ويحفر كالسكين أحداث الروح فى الروح مثلما تفعل الأغنية، لا الكتب، ولا المكان، ولا الزمان، لكن الأغانى وحدها هى التى تؤرخ لقمة كل انعطاف فى حياتنا. وقد يظهر ذلك مدى الأهمية البالغة لتعليم أطفالنا الموسيقى فى المدارس وفى البيت وفى الحدائق، حيث ينبغى أن نقيم أكشاك الموسيقى لتصدح فى كل روح طفلة.