رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تجديد الخطاب الدينى أم الواقع؟


يكتب الكثيرون باستفاضة فى «تجديد الخطاب الدينى»، ولو جمع ما كتب فى ذلك الموضوع لأقام جبلا ورقيا ضخما ممتلئا بأسماء لا حصر لها. يكتب الجميع بحسن نية وبالأمل فى تغيير الحياة إلى الأفضل. لكننى قدر ما قرأت لم أجد تحديدا لماهية ذلك الخطاب الدينى الذى نريد تجديده.
ما هو الخطاب الدينى الحالى الذى نطمح إلى تجديده؟ ما هى ركائزه التى يقوم عليها؟ ثم ما الذى يعجبنا أو لا يعجبنا فيه؟، بل إننا لا نحدد حتى مصدر ذلك الخطاب ومن الذى يرعاه؟ أهى الهيئات الرسمية؟ أم الفكر الشعبى؟. نحن إذن نتحدث عن تجديد شىء غير محدد، ونكتب روشتات علاج لمريض لا نعرفه ولم نره، ولم نتحقق إن كان شخصا أم وهما أم روحا شريرة من كوكب آخر!.
وإذا افترضنا أن الخطاب الدينى المقصود هو الخطاب الرجعى الطائفى، فإن الروشتة التى نقترحها تنطلق من مكافحة تصورات وقيم بمضادات الفكر المستنير، أى أن المعركة ستدور بين الفكر الرجعى والفكر المستنير. ومسبقا أقول إننا لن نحقق انتصارا فى هذه المعركة، لأن قدراتنا الفكرية مهما عظمت أضعف بكثير من الموروثات والتقاليد الراسخة من زمن طويل، كما أن الجماهير العريضة لا تقرأ ولا تتفاعل مع ما نكتبه لأسباب كثيرة، ومن ثم يظل ختان البنات والاستخفاف بالمرأة أمرا بدهيا فى لا وعى الغالبية.
وعندما نقرر مكافحة الفكر بالفكر وحده، فإننا فى الواقع ننساق وراء خطأ أن الثقافة بدورها التنويرى محصورة فى الكتب والأفلام والموسيقى والفنون، وأننا بتلك الوسائل سنهزم الخطاب الرجعى القديم. إلا أننا لا نضع فى اعتبارنا الشق الثانى فى الثقافة وهو الأكثر فعالية، أى «الثقافة المادية»، التى تغير الواقع ومن ثم يتغير الفكر تبعا لها. على سبيل المثال فإن بناء السد العالى كان عملا من أعمال الثقافة المادية الضخمة، لأنه أزاح الثقافة القدرية المرتبطة لدى الفلاحين بانتظار المطر وأحل محلها ثقافة أخرى مرتبطة بقدرة الإنسان على التحكم فى الطبيعة.
إقامة المصانع كانت أيضا «ثقافة مادية» أدت إلى خلق رؤى جديدة وثيقة الصلة بالآلات والميكنة والحداثة. وإذا كانت معارفنا الثقافية عن الطائرة تنتسب إلى مجال الثقافة الفكرية، فإن الطائرة بحد ذاتها تنتسب إلى «الثقافة المادية» وتؤدى إلى تغييرات فى مفاهيم الزمن والمسافة. وكل تغيير مادى فى الواقع نحو الأفضل هو تغيير ثقافى، أما الدوران فى دائرة حرب الفكر على الفكر وحدها فإنه لن يسفر عن نتائج كبرى، بينما سنقترب مما نريده إذا نحن قمنا ببناء المزيد من المدارس والجامعات ونشرنا فى الريف شاشات السينما ومنصات المسرح وقاعات القراءة. وإذا أردنا أن نجدد الخطاب الدينى فلننهض بالزراعة ونبنى المزيد من المصانع، الأمر الذى جعل محمد عبدالوهاب يغنى ذات يوم: «من زراعتنا تقوم صناعتنا.. والخير يبقى خيرين فى أيدينا.. من مدافعنا من مصانعنا.. نحرس حرية أراضينا». وكانت تلك الكلمات البسيطة تلخص فلسفة تغيير الفكر بتغيير الواقع أولا. وفى نهاية المطاف فليس الخطاب الدينى القديم هو المسئول عن أزمة المرور، ولا هو الذى سيحل الأزمة إذا تم تجديده. فلنبحث عن تجديد الواقع لأن الفكر بشكل عام يمثل استجابة لواقع محدد، ومثال ذلك أنه منذ مائة عام فى ظل ظروف متخلفة للغاية كان المصريون يناقشون إن كان تعليم المرأة حلالا أم حراما؟.
ومع التغييرات التى تمت فى الواقع تلاشت تلك الأسئلة، وسوف يتراجع الخطاب الدينى الرجعى، من دون حاجة لتجديده، فى ظل تجديد الواقع وحل مشكلاته. ولا أقصد بما سبق كله التقليل أو التهوين من دور الفكر وأثره، ذلك أن تغيير الخطاب القديم يتم بتضافر بين الفكر وبين تجديد الواقع، إلا أن الأولوية تظل لتغيير الواقع الاجتماعى والاقتصادى، وحينئذ سيشحب الخطاب الرجعى، التقليدى، الطائفى، الذى يسمم الوعى ويضع العراقيل أمام التطور.