رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شطة وبيكا.. لا غنا ولا مزيكا



فى غمضة عين، تحول المطربان «حمو بيكا» و«مجدى شطة»، إلى حدث يشغل مواقع التواصل ونقابة الموسيقيين والأمن والصحافة والتليفزيون، بل البرلمان أيضًا. هما مطربان، إذا جاز القول إنهما مطربان، قفزا من قاع المجتمع وأزقته إلى أعلى نقطة فى سطح الحياة الثقافية، وحازا شهرة ضخمة وأصبحا نجمين. الأول «مجدى شطة» من شارع شعبى بالمطرية فى القاهرة، أمى، لا يقرأ ولا يكتب، عمل «صنايعى» فى عدة مهن، وبدأ الغناء فى السيارات التى تسبق فرش العروس بحوارى المطرية.
الثانى «حمو بيكا» من منطقة عشوائية أيضًا، لكن من الإسكندرية، فُصِل من المدرسة وهو طفل ولم يكمل تعليمه، عمل «صبى جزار»، ونجارًا مسلحًا، وسواق توك توك. بدأ الغناء بتسجيل أغنية وضعها على النت وشق بها طريقه. فى البداية كان جمهور المطربين الاثنين يقتصر على سائقى التوك توك والميكروباصات، ثم اتسع وأمسى «مهرجانات» فى الشوارع، تختلط فيها أصوات الغناء بزعيق أبواق السيارات والشتائم والصياح وجمهور ربعه مخدر، وربعه لطشه الخمر. نحن إذن أمام قاع المجتمع فى تمرده لفرض «الفن» الذى يريده، الفن الذى يمكنه أن يقضى معه وقتًا بسعر فى متناول اليد، ودون أن يرتدى البدلة المكوية والكرافتة، التى تشترط دار الأوبرا ارتداءها للدخول. وخلافًا لوقار الثقافة الرسمية، يقيم «بيكا، وشطة» مهرجان شارع مفتوحًا، يقف فيه من يشاء بالشبشب والسجائر الملفوفة والجلابيب أو غيرها، ويصرخ من يشاء بما يعن له، وينعم بالذهول من يستعذب الذهول. والمؤكد- على المستوى الموسيقى- أن أغنيات بيكا وشطة شىء لا علاقة له لا بالغناء ولا بالموسيقى. فما السر إذن فى هذا الاكتساح الذى بلغ حد أن إحدى أغنيات «بيكا» تخطت نسبة العشرة ملايين مشاهدة على النت؟!.
السر فى اعتقادى أن المطربين يمثلان ظاهرة اجتماعية، وليسا ظاهرة فنية، ويرتكزان ليس على الموسيقى إطلاقًا ولا على صوتيهما، بل على مخاطبة الشارع مباشرة، ثم الكلمات المشبعة بالعنف التى يكتبها لبيكا مؤلف أغانٍ يطلق على نفسه «الشاعر الفاجر»!، الكلمات المشبعة بالغضب والعنف واليأس والاحتجاج الذى لا ينيره الوعى. انظر كلمات مثل: «إدكو فيها جبابرة ممنوع فيها الناس تنجرح»، و«من النهارده تدوقوا الغم.. لما تغرق يا زميلى دم.. يبقى كده أنا واخد حقى»، ثم: «أنا اسمى زى الدهب ومعروف فى كل مكان.. وفى ثانية تولع لهب لو جيت علىّ يا مان».
اللهب والدماء والجبابرة من حى إدكو الشعبى فى الإسكندرية، أو حى المطرية فى القاهرة. وخلال ذلك يصبح جمال الحب مثل جمال المخدرات! فيغنى المطرب: «عسل وسكر وعيون خضرا.. أدمنت حبك أصبح بودرة»! ويغنى أيضًا: «أنت بلد المليون شارب»، ويغنى: «ولعها ما تخافش من الشرطة.. واعمل هجوم على خط النار»!، يختفى وراء كلمات تلك الأغانى يأس وغضب جمهور من قاع المدينة بلا رؤية ولا مَخرج، لا يرى أمامه إلا أغانى عمرو دياب التى يعتبرها بسكويت الفن الناعم المقدم للطبقة الراقية، ويتلفت حوله فلا يرى سوى شطة وبيكا، صارخين خارج إطار الثقافة السائدة.
والسبب فى الأزمة التى أثارها شطة وبيكا أنهما يتعاملان مع الأغنية، وهى أكثر الأشكال الفنية انتشارًا وتأثيرًا، لأن الموسيقى المصرية كلها تقريبًا اكتفت بقالب الأغنية، التى تضخمت وابتلعت بقية الأشكال الغنائية من موسيقى فقط دون كلمات، أو مسرح غنائى أو غير ذلك.
ولا يمكن بحال من الأحوال أن نحسب ما يقدمه الأخوان «شطة، بيكا» على الفنون الشعبية، ولا يمكن أن نحسبه أيضًا على التعبير عن أحلام طبقة فى مواجهة طبقات أخرى، مثلما عبر الأبنودى عن ذلك ذات يوم بقوله فى قصيدته أحزان عادية: «إحنا شعبين.. شوف الأول فين والتانى فين»، وما يقدمه «شطة، بيكا» هو تعبير عن الانحطاط الفنى ولا أكثر، سواء فيما نسمعه أو فى ذائقة فئات من الجمهور. وعلينا فى هذه الحال أن نسأل أنفسنا: ما الذى قدمته وزارة الثقافة فى ذلك المجال لكى لا تنحدر جماهير الشوارع إلى ذلك الانحطاط الفنى؟.. هل نشرت الوزارة المسارح وقاعات الموسيقى فى المناطق الشعبية؟.. هل جعلت أسعار دخول حفلات مؤسساتها أرخص لتمكين البسطاء من الدخول؟.. هل قامت على الأقل بفتح دور السينما والمسارح المغلقة؟.