رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قضية النقاب وتحرير المرأة


عادت قضية النقاب للظهور بقوة مؤخرًا على سطح الحياة السياسية والثقافية المصرية، خاصة بعد أن تقدمت النائبة غادة عجمى بمشروع إلى البرلمان لحظر النقاب فى الأماكن العامة، وذلك قبل أن تتراجع عن المقترح. والنقاب قضية متعددة الأوجه تنطوى على البعد الأمنى فيما يخص إمكانية التخفى وراء النقاب لارتكاب مختلف الجرائم، وعلى البعد الاجتماعى الخاص بتحرر المرأة من مفهوم أنها موضوع جنسى يجب حمايته قبل تقديمه، وعلى البعد السياسى الذى أصبح فيه النقاب تجسيدًا لمفاهيم الإخوان وتوسيع وجودهم فى الشارع، أخيرًا هناك البعد القومى حيث يهدد النقاب بالتمييز بين عنصرى الأمة.
أثار قاسم أمين القضية ذاتها، منذ أكثر من مائة عام، سنة ١٨٩٩، فى كتابه «تحرير المرأة»، وتناول فيه تقريبًا الأبعاد الأربعة لأزمة النقاب، وقال فى ذلك: «ومن غريب وسائل التحقق أن تحضر المرأة مغلفة من رأسها إلى قدميها أو تقف من وراء ستار أو باب، ويقال للرجل ها هى ذى فلانة التى تريد أن تبيعك دارها أو تقيمك وكيلًا فى زواجها مثلًا.. والحال أنه ليس فى هذه الأعمال ضمانة يطمئن لها أحد.. وإذا وقفت المرأة فى بعض مواقف القضاء خصمًا أو شاهدًا، فكيف يسوغ لها ستر وجهها؟». ويقول عن الحجاب: «وكل من عرف التاريخ يعلم أن الحجاب دور من الأدوار التاريخية لحياة المرأة فى العالم.. فقد كانت نساء اليونان يستعملن الخمار إذا خرجن، ويخفين وجوههن بطرف منه كما هو الآن عند الأمم الشرقية.. وقد ترك الدين المسيحى للنساء خمارهن فكن يغطين رءوسهن إذا خرجن فى الطريق.. ومن هذا يرى القارئ أن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصًا بنا، ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكنه كان عادة معروفة عند كل الأمم تقريبًا، ثم تلاشت طوعًا جريًا على سنة التقدم والترقى». وبطبيعة الحال فإن كتاب قاسم أمين الرائد فى مجاله لا يتناول قضية النقاب فحسب، بل يتناول تربية المرأة، ووظيفتها فى الهيئة الاجتماعية، وفى العائلة، ثم يتطرق بعد ذلك إلى الحجاب من الجهة الدينية والاجتماعية، وينتهى بموضوع المرأة والأمومة، ومشكلات الزواج، والطلاق، وتعدد الزوجات.
ولا شك أن تراجع النائبة البرلمانية غادة عجمى عن مشروعها المقدم لحظر النقاب، إنما يعكس خوفًا من الرأى العام الذى شكله التيار الدينى الرجعى على مدى سنوات طويلة. وقد أقام ذلك التيار دعواه بشأن النقاب، على أساس أن تلك الأقمشة المسدلة حماية للفضيلة والعفة، لأنها تمنع افتتان الرجال بالنساء. بهذا الصدد طرح قاسم أمين سؤاله: «لكن ألا يحتمل بالعكس أن تفتتن النساء بالرجال، وهم لا يسترون وجوههم؟! أم أن عزيمة المرأة على مقاومة الفتنة أقوى؟!»، وفى ذلك المعنى يقول بالنص: «عجبًا! لمَ لمْ تؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوههم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهن؟، هل اعتبرت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتبرت المرأة أقوى منه فى كل ذلك حتى أبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم ومنع النساء من كشف وجوههن؟. ويقول قاسم أمين عن الوجه الآخر للمسألة وهو أن النقاب يمنع المرأة من الانزلاق للفساد: «أيقبل من مسجون دعواه أنه رجل طاهر لأنه لم يرتكب جريمة وهو فى الحبس؟!.. فإذا كانت نساؤنا محبوسات محجوبات.. فما معنى أن يقال إنهن عفيفات؟» ذلك أن العفة الحقيقية تظهر ليس فى ظروف الإجبار، أى عندما ترتدى المرأة النقاب خوفًا من المجتمع، لكن العفة تتجلى عند حرية الاختيار، عندما لا تكون المرأة مقيدة وتتخير بمحض تربيتها الطريق السليم، وإلا فإنها مثل مسجون يتباهى بأنه لم يرتكب جريمة وهو فى محبسه».
لقد انقضى أكثر من مائة عام على دعوة قاسم أمين لوقف النقاب، وما زالت القضية مثارة، بل وما زالت تثير المخاوف إلى درجة التقدم بمشروع حظر النقاب إلى البرلمان ثم سحب المشروع. ومع ذلك فإن المرأة تنتزع حقوقها بالتدريج، شيئًا فشيئًا، ويتغير المجتمع أيضًا ببطء، لكنه يتغير، ويكفى على سبيل المثال أن أحدًا الآن لم يعد يجادل فى حق المرأة فى التعلم، بينما كان ذلك الحق منذ مائة عام مطروحًا بصفته قضية دينية، ويشير قاسم أمين إلى ذلك قائلًا: «ولا يزال الناس عندنا يتساءلون هل تعليم المرأة القراءة والكتابة مما يجوز شرعًا أم هو محرم بمقتضى الشريعة؟»!!، أخيرًا فإن قاسم أمين يسجل ملاحظته الجميلة التى تجسد روح فكرته كلها: «أليس الرجال من النساء والنساء من الرجال وهن نحن ونحن هن؟، أيتم كمال الرجل إذا كانت المرأة ناقصة؟».