رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«مفيش فايدة».. فن تحقير الذات



يميل البعض إلى ترديد كلمات سعد زغلول الشهيرة «مفيش فايدة» كلما ألمت بهم أو بالبلد كارثة أو اشتدت علينا المصاعب، وعادة فإنهم يرفقون تلك العبارة بغيرها مما يفيد أننا «نحن المصريين» لم نكن يوما كفئا لشىء، وأن تاريخنا كله سلسلة من الهزائم، ونحن باختصار كنا وسنبقى صفرًا على الشمال فى تاريخ التطور. ومع أن سعد زغلول قال تلك العبارة لزوجته السيدة صفية حينما استشعر دنو أجله عام ١٩٢٧ إلا أن عشاق اليأس وتحقير الذات استخدموها ليستخصلوا منها أنه «مفيش فايدة» على وجه العموم.
إذا كان اليأس من حالات النفس الإنسانية، إلا أن تلك الحالة تنزلق فى لحظات كثيرة إلى شىء آخر، إلى تحقير الذات، وهو أمر مختلف تمامًا، لا يليق، خاصة بمن يدعون أنهم مفكرون وعلماء. ويتضخم التأثير السلبى لتحقير الذات لا سيما فى الظروف التاريخية المضطربة.
وإذا لم يكن بوسع الإنسان أن يروى الشجرة فلا داعى أن يصبح غرابا ينعق على فروعها الجرداء بتسفيه الذات والحضارة والشعوب. وقد تعالت فى الآونة الأخيرة تلك الأصوات ومنها ما كتبه غزالى كربادو من أن العرب لم يفعلوا شيئا سوى سرقة إنجازات الحضارات السابقة عليهم، وأن تاريخهم كله هو تاريخ غزوات النهب والسلب وتمجيد الصعاليك، وأن إنجازهم الوحيد كان فى قطع الرءوس وأكل الأكباد والتفجير.
أما المفكر والكاتب السعودى د. إبراهيم البليهى فيقول فى نفس الاتجاه: «على ماذا يحسدنا الآخرون؟، على التخلف؟، على التعصب؟، على الجهل؟، الآن عندما نراجع الإنجازات البشرية التى حصلت فى مجال الطب والهندسة والطيران وفى كل المجالات، ما الذى قدمناه نحن العرب خلال قرنين كاملين؟، ما الذى قدمناه؟، حتى أسلافنا لم يقدموا أى شىء، الذين قدموا كانوا أفرادا خارج النسق الثقافى العربى، ابن رشد، ابن الهيثم، ابن النفيس، كل هؤلاء كانوا خارج النسق الثقافى العربى، وكانوا تلامذة على الفكر اليونانى، مثلا لمّا نأتى لابن رشد هو شارح أرسطو، فلم يأت بشىء جديد» ويصل البليهى إلى خلاصة ما يريد قوله وهو أنه: «لولا البترول والعنف ما عرف الناس أنه فيه شىء اسمه العرب».
وأمثال البليهى وغزالى كربادو كثيرون، هم فى واقع الأمر تيار فكرى يقوم على تحقير الذات فى لحظة يعصف فيها بالمنطقة العربية أشد مخطط استعمارى لتفكيكها وتجزئتها ونهب ثرواتها. فى هذه اللحظة يقول لنا البليهى وكربادو إننا لا شىء، ولم نكن شيئا. ولنبدأ بالمغالطات الفكرية التاريخية التى يعتمد عليها أساتذة فن تحقير الذات، وفى مقدمتها إنجازات الحضارة العربية التى كتب عنها الأوروبيون أنفسهم الكثير. أشير فقط إلى كتاب «عبقرية الحضارة العربية» لمؤلفه أوليج جرابار الذى يحصى الإنجازات المعمارية منوها بمسجد القيروان فى القرن الثامن، ومسجد الأقصى، وغيرهما.
وقد امتد تاريخ الحضارة العربية لأكثر من ألف وستمائة عام قبل الإسلام، وقدمت فى تطورها كل أسباب التقدم للنهضة الأوروبية فى كل المجالات، ويكفى هنا ذكر ابن سينا الملقب بالشيخ الرئيس وكتابه «القانون»، وهو موسوعة ضمت خلاصة الطب العربى واليونانى، وأبوبكر الرازى الذى توصل لنظرية الميكروبات، والبيرونى فى مجال الفيزياء الذى شرح كل ما يتعلق بضغط السوائل وتوازنها، وابن الهيثم الذى وضح فى كتابه «المناظير» الأسس التى ترى بها العين، وأن الأشعة تخرج من المرئى إلى العين، وفى علم الاجتماع كان ابن خلدون أول من بحث فى كل ظواهر المجتمع فى تشابكها وفى قيام الدول وأسباب نهوضها وضعفها. وهذه الحقائق كلها سجلها الأوروبيون أنفسهم ولست أنا أو غيرى.
وإزاء تلك الحقائق يقول الأساتذة إن كل العلماء والمفكرين العرب الأفذاذ كانوا خارج النسق الثقافى العربى، أى أن تلك حالات استثنائية لكن النسق بأكلمه ردىء، أما حين يتعلق الأمر بعلماء ومفكرين أوروبيين فإنهم لا يشيرون بحرف إلى النسق، بل يعتبرون أولئك العلماء تعبيرًا عن النسق الحضارى!!، والحق أننى لا أرى فى مثل أولئك الكتاب، وفى مثل تلك الدعوات، سوى نعيق غربان على فروع جرداء، غربان ترى الجرح فلا تسعى لتضميده، أو التهوين على أصحابه، أو حثهم على الصمود، لكنها تبصق فى الجراح، وتنعق، وتعتقد فى تلك الأثناء أنها تغرد، وأنها أجمل الحيوانات وأكثرها حكمة.