رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هذه هى مصر التى يجهلها شبابنا


منذ زمن بعيد.. سافرت إلى اليونان.. تجولت فى مدنها وريفها.. استمتعت بجوها الجميل وشواطئها الرائعة.. أكلت من فاكهتها الطازجة «رمان وعنب وتين» التى تملأ الشوارع وحدائق المنازل.. تعاملت مع أناس طيبين بطبعهم.. يشبهوننا إلى حد بعيد فى الود ودفء المشاعر والأحاسيس.. حتى فى استقبالهم لك.. تشعر بالألفة وعدم الغربة.
بعد فترة من إقامتى بالعاصمة أثينا.. وتحديدا فى منطقة «كلاسيا» بشارع «سنجرو».. استقللت الباص المتجه إلى مدينة خالكيذا التى تبعد عن العاصمة حوالى ٣ ساعات تقريبا، لزيارة صديق مصرى لى.. وصلت إلى المكان الذى أريد.. نظرت حولى.. أمعنت النظر وأطلته.. فذكرت الله وسبحته على ما رأته عيناى.. واستمتعت به حواسى.. مشهد أكثر من رائع.. بيوت ريفية بسيطة فى طرازها المعمارى.. لكنها تشبه إلى حد بعيد تلك الفلل الأثرية العتيقة.. أمام كل بيت جنينة مليئة بالزهور والفواكه.. وسط كل هذا توجد مساحات زراعية شاسعة بها أعداد كثيرة من الأبقار «الفريزيان الهولندية الحلوب».
نصف ساعة تقريبا وأنا مستمتع بالتواجد فى هذا المكان.. تمنيت من الله حينها أن أستقر فى خالكيذا للأبد ولكن... وما هى إلا لحظات حتى سألت أحد المارة عن عنوان صديقى.. وإذ به على بعد دقائق.. أخيرا وجدته أمامى هو وزوجته اليونانية.. ولأنهما مثقفان ويعرفان جيدا قيمة حضارتنا.. فقد أتحفانى بمعلومات موثقة غاية فى الأهمية عن فضل قدماء المصريين على الحضارة اليونانية.. بصراحة لم أكن أعرفها من قبل.
من ضمن هذه المعلومات- وهذا ما تأكدت منه فيما بعد- أن هيرودوت.. المؤرخ اليونانى والملقب بـ«أبوالتاريخ».. عندما زار مصر فى القرن الخامس ق. م.. أكد تأثر حضارة بلاده بحضارتنا فى أكثر من مجال.. ويتضح ذلك فى قوله: «لقد جاءتْ أسماء الآلهة كلها تقريبًا من مصر إلى بلادنا.. فـ«أبوللو اليونانى» هو نفسه «حورس المصرى» و«ديمتر اليونانية» هى نفسها «إيزيس المصرية».. كما أشاد بدور مصر فى الملاحة البحرية.. وشق قناة تربط البحر الأبيض بالبحر الأحمر.. مستندا فى ذلك إلى الرسم الذى شاهده على الجداريات لمنظر الأسطول المصرى فى رحلته إلى بلاد «بنط».. الصومال حاليا.
وذكر «هيرودوت» أنّ «الملك أحمس الثانى - آخر الفراعنة العظام فى تاريخنا قبل الغزو الفارسى اللعين للمحروسة – أول من سن قانونا سنويا للكشف عن مصدر دخل المواطن العادى وحكام الأقاليم والوزراء على السواء («من أين لك هذا» فى العصر الحديث).. مؤكدًا أنّ هذا القانون بالإضافة إلى قانون الضرائب.. نقله المشرع ورجل القانون اليونانى «سولون» أو «صولون» عام ٥٦٠ ق. م.. إلى أثينا.. وأضاف «أبو التاريخ» أن بلاده نقلت عن مصر عادة «احترام وإجلال صغار السن لكبارهم».. كما نقلت عنها أيضا علوم الطب المصرى وتخصصاته المختلفة.
اعتراف «هيرودوت» يتفق تماما مع ما كتبه مواطنه استرابون «مؤرخ وجغرافى وفيلسوف يونانى».. عندما قال إن «علوم الطب كانت سرًا من أسرار الكهنة المصريين».. مدللا على ذلك بأنّ «اليونانيين عندما طلبوا شيئــًـا من أسرار المصريين فى معارف الطب ظلوا يلزمون أبواب الكهان المصريين ثلاثة عشر عامًـا حتى نالوا مطلبهم».
الصديق المحترم د.كمال رباح - أستاذ الفلسفة – سبق أن أكد لى أن فلاسفة وعلماء الإغريق أمثال: أرسطو وسقراط وأفلاطون وفيثاغورث و... تعلموا أبجديات العلوم فى «جامعة أون».. عين شمس حاليا.. ومن مفارقات القدر.. أن كهنة «أون» رفضوا قبول أحد هؤلاء الفلاسفة فى بادئ الأمر استنادا إلى أنه «جاء من حضارة منحطة».. لكن وساطة الفرعون آنذاك شفعت له بالبقاء فى مصر وتلقى العلم على يد كهنتها ومنهم العالم الفذ «أمحوتب» الذى أنشأ هرم زوسر المدرج.. وهو أشهر مهندس معمارى وطبيب فى مصر القديمة والعالم.. وكرم بعد وفاته.. وأصبح إلها للطب.
فى كتابه «التراث المسروق.. الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة»، أبدى أيضا الكاتب الأمريكى جورج جى ام. جيمس اعتراضه على مصطلح الفلسفة اليونانية أو الإغريقية.. مؤكدا أنها تسمية خاطئة.. وأن من يُعرفون بأنهم فلاسفة اليونان لم يكونوا أصحاب هذه الفلسفة.. وإنما أصحابها هم الكهنة المصريون وشُراح النصوص المقدسة والرموز السرية للكتابة والتعليم.. ويوضح أن المصريين القدماء استحدثوا مذهبا دينيا شديد التعقيد سُمِى نظام الأسرار.. أول مذهب عن الخلاص بهدف السمو على سجن الجسد وأن هذا النظام ظل سريا وشفاهيا يحظر تدوينه لنحو خمسة آلاف عام حتى سُمح للإغريق بالتعلم مباشرة من الكهنة المصريين.
ويضيف «جيمس» أن الفلسفة المصرية غير المكتوبة التى تُرجمت إلى اليونانية القديمة.. هى وحدها فقط التى وجدت المصير البائس لتراث سرقه الإغريق.. كما أوضح أن «التضليل فى حركة الترويج للفلسفة اليونانية يبدو سافرا وفاضحا إلى أقصى مدى.. وذلك عند الإشارة عمدا إلى أن نظرية المربع القائم على وتر المثلث قائم الزاوية هى نظرية فيثاغورث.. وهو زعم أخفى الحقيقة قرونا عن أعين العالم...إن المصريين هم الذين علموا فيثاغورث واليونانيين الرياضيات التى عرفوها» بعد أن أُتيحت لهم فرصة التعلم من الثقافة المصرية.
ما كتبه «جيمس» يكشف ويفضح «أسطورة كبرى ومؤامرة حكمت التاريخ واستبدت بفكر الإنسانية حتى أصبحت جزءا من سياسة عالمية امتدت قرونا».. لأن مثل هذه الأساطير لبست ثوب الحقائق.. وأصبحت مرجعا يُستشهد به ويكتسب قدسية أكاديمية.. خاصة أن «جميع الغزاة» ناصبوا الثقافة المصرية «العداء القاتل».. ولم ينتموا إلى مصر تاريخا أو مجتمعا.. ولهذا تعمدوا تجفيف منابع الثقافة المصرية المادية والروحية بتدميرها أو نهبها، حتى لو تخفوا وراء أقنعة أيديولوجية باسم الحضارة أو «إبلاغ رسالة».. ويعرب جيمس عن سعادته لأنه استطاع أن يلفت «أنظار العالم» إلى هذه القضية التى يأمل أن تساعد «كل» من لهم أصول إفريقية إلى التحرر من «عبودية عقدة النقص»، وأن يشعروا بالحرية ويتمتعوا بكل الحقوق والامتيازات الإنسانية.
ختامًا.. إلى أبنائى الشباب.. هذه هى مصركم.. مصركم التى سقت أشهر علماء العالم وفلاسفته العلم فى ماعون المحبة والتعاون.. لا بملعقة الابتزاز والإذلال والهيمنة.