رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

آية الرحمة


عندما زرته فى محل إقامته ونظرت إليه لم أصدق نفسى: هل هذا هو مدرسى فى المرحلة الابتدائية؟!.. معقول يكون هو؟!.. إنه هو بشحمه ولحمه.. معلمى ومعلم الأجيال.. ابن الخمسة وسبعين ربيعا.. ما زال أنيقا.. لبقا.. مهذبا.. ماذا عساه يفعل بتلك «العلبة» التى ملأها بالمياه وأمسكها بين يديه؟!.. آآآآآه فهمت.. إنه يضعها على الأرض بجوار شجرة أمام منزله.. لماذا يا ترى؟.. سبحان الله.. ها هى القطط تلتف حوله وتمسح وجهها بقدميه لتشرب من العلبة!!.
حقا وصدقا وإيمانا.. مشهد رائع بكل المقاييس.. هل أناديه لأطمئن عليه وأذهب إلى حال سبيلى؟.. لا.. سأقف وأشاهده دون أن أسبب له أى إزعاج حتى ينتهى من مهمته المقدسة.. نعم والله مهمة مقدسة لو نعلم.. عشرون دقيقة بالتمام والكمال وأنا أتأمل رحمة معلمى مع خلق الله.. سألت نفسى مرة أخرى قبل أن أناديه: لماذا «يشغل» نفسه بهذه الأمور؟!.. أما آن له أن يرتاح بعد هذا العمر وفى تلك السويعات التى تزيد فيها الحرارة على ٤٠ درجة؟!.. وجاءت الإجابة من واقع الماضى البعيد.. وقت أن كنا صغارا فى عمر الزهور.. كان لنا هذا المعلم مثل الوالد والأخ والصديق.. كانت يداه دائما لجميعنا بالخير سباقة.. كما كان لنا عنوانا جميلا للرحمة والخير والحنان والمروءة والمحبة لله وفى الله.. ولا شىء آخر سوى ابتغاء مرضاة الله.. وها هو ذا.. ما زال يتمتع بالصفات الجميلة نفسها حتى مع الحيوان.. أعطاه الله الصحة وطول العمر.
بعد أن فرغ المعلم من مهمته.. نظر يمينا ويسارا.. «صوب عينيه فى عينىّ».. وبسرعة البرق خطا ٧ خطوات نحوى.. سألنى: شكلك مش غريب على يا ابنى.. مش إنت كنت تلميذ عندى فى فصل «١٣» ابتدائى بمدرسة منية محلة دمنة.. حتى بالأمارة كنت بتقعد فى «التختة الأولانية» مع «ابن فلان وابن علان»؟؟.. وقبل أن أجيبه.. عاجلنى بسؤال ثان: مش إنت من عائلة «.....»؟؟.. وفى غمرة أسئلته البريئة لنفسه تارة ولى تارة أخرى.. رفع يده اليمنى على رأسه وأغمض عينيه لثوان معدودة.. ثم سألنى مجددا بعد أن وضع ذات اليد جانبا وهو يبتسم: إنت محمود ابن المرحوم «.....». صح؟؟.. أجبته بابتسامة عريضة ويد ممدودة بالسلام: نعم يا سيدى الكريم أنا هو.
عندئذ علا صوته مرحبا: «أهلًا.. أهلًا.. أهلًا بالغالى ابن الغالى».. ثم بسط يديه وسلم علىّ.. وظل يسألنى عن أحوالى وأخبار كل من أعرفهم.. فكانت لفتة إنسانية عظيمة من «المعلم الإنسان».. «المعلم القدوة».. المعلم الذى تجسدت بقلبه الرحمة التى نرجو.. والبر الذى نطمح.. من ضمن ما حفظت منه ورددت خلفه.. تلك الأبيات الجميلة التى كان يتغنى بها دائما:
بادرْ إلى الخيرِ يا ذا اللبِّ مغتنمًا.. ولا تكنْ مِن قليلِ العرفِ محتشما
واشكرْ لمولاك ما أولاك من نعم.. فالشكرُ يستوجبُ الإفضالَ والكرما
وارحمْ بقلبِك خلقَ الله وارعَهُم.. فإنَّما يرحمُ الرحمنُ مَن رَحِمـــــا
ولا أدرى لماذا سألته عن إرهاق نفسه وإشغالها بالقطط؟؟.. فكانت إجابته: لقد خلت الدنيا من أصدقائى وأحبائى ولم يعد لى فيها من يهتم بى أو أهتم بشأنه سوى مخلوقات الله الضعيفة هذه.. هنا تذكرت قول الله تعالى عن الرحمة: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِى الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين﴾ صدق الله العظيم «آل عمران: ١٥٩».
ويعرف الحبيب المصطفى، صلى الله عليه وسلم، الرحمة لبنى الإنس والجن والحيوان فيقول: «إن لله مائة رحمة، واحدة بين الجن والإنس والبهائم والهوام، فبها يتعاطفون، وبها يتراحمون، وبها يتعاطف الوحوش على أولادها، وأخر تسعًا وتسعين رحمة يرحم بها عباده يوم القيامة».. صدق رسولنا الكريم.
ومن مظاهر رحمة الإنسان بالحيوان فى حديث للرسول الكريم أن «دخلت امرأة النار فى هرة ربطتها، فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض، حتى ماتت».. وفى حديث نبوى آخر: «بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى بِطَرِيقٍ اشْتَدَّ عَلَيْهِ الْعَطَشُ فَوَجَدَ بِئْرًا فَنَزَلَ فِيهَا فَشَرِبَ ثُمَّ خَرَجَ فَإِذَا كَلْبٌ يَلْهَثُ يَأْكُلُ الثَّرَى مِنْ الْعَطَشِ».. فَقَالَ الرَّجُلُ: «لَقَدْ بَلَغَ هَذَا الْكَلْبَ مِنْ الْعَطَشِ مِثْلُ الَّذِى كَانَ بَلَغَ بى.. فَنَزَلَ الْبِئْرَ فَمَلَأَ خُفَّهُ ثُمَّ أَمْسَكَهُ بِفِيهِ فَسَقَى الْكَلْبَ فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ لَهُ.. قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنَّ لَنَا فِى الْبَهَائِمِ أَجْرًا.. فَقَالَ نَعَمْ فِى كُلِّ ذَاتِ كَبِدٍ رَطْبَةٍ أَجْر».
أخيرا.. أذكر نفسى وقارئى العزيز بأن الرحمة تتجلى فى التعامل مع كافة مخلوقات الله.. فالحبيب المصطفى بُعث رحمة للعالمين.. وكان صلى الله عليه وسلم رحيما بالصغير وبالكبير وبالحيوان وبالنبات وحتى بالجماد.