رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحيم طايع يكتب: حديث صريح عن الدُّعَاة الجُدُد

عبدالرحيم طايع
عبدالرحيم طايع

لم يقدِّم الدعاة إلى الله، فى النُّسخة المعاصرة، شيئًا يختلف عما قدَّمه الأوَّلون فى الإطار نفسه، والأنكى أنهم جعلوا الدِّين برامج عالية التكلفة فى القنوات الفضائية، إما أن ينفرد الداعية من هؤلاء بالكاميرات، فيبث رسالته ثم يجيب عن أسئلة المتداخلين فى الموضوع تليفونيًا للاستفسار، ويبسمل ويحوقل ويعيد ويزيد ويفعل كل شىء وحده، وإما أن تصاحبه قاعدة شبابية «مدفوع أجرُها» فتتفاعل معه مباشرة فى الاستديو، ويظهر عَبْرَها باطن ما يريد قوله.
استثمر بعض هؤلاء الدعاة انتماءه إلى الأزهر أوسع استثمار، ومن لم يكن أزهريًا منهم دافع عن سمعته بضراوة، معتبرًا الدراسة فى الأزهر ودور العلوم الشرعية ليست شرطًا فى شخصية الداعية، وشرح فقال إن كل من حفظ القرآن وتبحَّر فى الحديث وألمَّ بالفقه والقياس، وحصَّل ثقافة دينية عامَّة واسعة؛ فمن حقِّه أن يتصدَّى للدعوة شأنه شأن الأزاهرة ونظرائهم.. وهذا بالضبط معنى الحق الذى يراد به باطل.
القنوات الفضائية من ناحيتها، وجدت الأمر مربحًا للغاية؛ ففتحت الأبواب لكل ذى دعوة، ولم تأبه لاحتجاجات المحتجِّين، بل باعت الجميع، وخلعت على دعاتها ألقاب الشيوخ والأئمة والأمراء، وأغدقت عليهم الأموال، ومجَّدتهم تمجيدًا.
ظل الشارع المصرى فى بَوْنٍ وجماعات الدعاة المقصودين فى آخر، هو يعانى الفوضى والفقر والجريمة والتَّسيُّب، وهم يرون طريقة تمسُّكهم بالقيم الدِّينية حلًا أكيدًا لكل المشكلات، وهكذا يدوسون علومًا مهمة كعلمى الاجتماع والأخلاق، ويهملون الأبعاد الاقتصادية، ولا يبالون بالسياسة ولا الثقافة.
جرت العادة على تسمية هؤلاء بـ«الدعاة الجُدُد» (الجُدُد جمع جديد)، ولم يعرف أحد يقينًا معنى التسمية الغامضة، هل سببها حداثة أعمار معظمهم.. أم سببها مغايرتهم العهود السابقة عليهم؟.. أيًا ما يكون فقد منحتهم التسمية البراقة ثقة لا يستحقونها وأعطتهم شهرة لم يكونوا يحلمون بمثلها.
على كل حال لو كانت التسمية سببها حداثة الأعمار، فالأعمار تكبر والجديد يصير قديمًا لا محالة، والفرق الوحيد بينهم وبين السابقين هو ساعاتهم السويسرية الفخمة وعطورهم الباريسية الفائحة من وراء الشاشات وملابسهم المستوردة الموافقة لأحدث الموضات العالمية.
لم تغب النساء عن المشهد الصاخب؛ فبرزت داعيات إلى الله كما برز دعاة، لكن غلب حديث النساء فى مجالسهن بالبداهة، وما أشد حرارة موضوعاته، والداعيات نجحن فى خلق قاعدة جماهيرية عريضة بأصوات مريداتهن، كن استعددن لخلقها أتم الاستعداد بالملبس التمثيلى المناسب «الأنيق المحتشم» تعلوه الأحجبة الزاهية أو النُّقُب وبالعبارات الجذابة.. لم يرفضن استضافة فى إذاعة رائجة ولا حوارًا فى صحيفة لامعة، بشرط المكافأة الجزيلة طبعًا، فضلًا عن ظهورهن المنتظم فى الفضائيات الثرية القوية التى تعاقدن معها على تقديم البرامج المتخصِّصة.
تتناول وكالات الأنباء أخبار هؤلاء الدعاة كما تتناول أخبار نجوم الفن والرياضة والمجتمع، من بينها بالمناسبة أخبار الصراعات الخائبة «الفاحشة» بينهم فى القضايا الدينية الملحَّة والفتاوى وكيفيَّات التَّصدِّى للواقع السريع المتقلِّب، هم الذين يحثُّون الناس على السلام، وهجر القبيح الشنيع من الأقوال والأفعال، وكذلك تتناول أخبار ممتلكاتهم المعبِّرة عن الغرق فى الرفَاهية، هم الذين لا يزالون ينصحون الناس بالحرص على البساطة والتَّخفُّف من المتاع الدنيوى الزائل.
بالأساس لا مطر فى أيديهم، إنما يفتعلون حمل المُزْن، ويدَّعون أنهم ببركته يمطرون «صيبًا نافعًا».. فلم يفتحوا أبواب الاجتهاد للخلق بعد أن أغلقها أعداء التجديد، ولم يأتوا بفكرة ألمعية لم يسبق طرحها تحاصر القبح الذى ملأ حياتنا وأوشك أن يفنيها، ولم ييسِّروا عبادة ولم يستحدثوا معاملة، ولم يكونوا قدوة بعد غياب القدوات.. كانوا، فى الحقيقة، عبئًا على الدعوة، وأثقلوا الدُّنيا بالدِّين، ولم يوقِّروا الدِّين إذ جعلوه سُلَّما للصُّعود فى الدُّنيا، بجانب ركاكة أغلبيَّتهم فى اللُّغة التى هى وعاء الدعوة.
أى إهانة وجَّهناها جميعًا إلى أنفسنا حينما سمحنا لأمثالهم بالغِنَى والامتلاك والذُّيوع والتَّحكُّم فى البسطاء والمراهقين وقليلات الحظ من المعرفة؟ وأى إهانة وجَّهناها إلى بلدنا العريق عندما سكتنا عن أن يجعلوها شبيهة بالبلدان الأدنى حضاريًا بكثير؟.. لا أحبِّذ المبالغة فى أسئلة تأنيب الضمير، لكن أتمنى أن ينبِّهنا بعضُها لمصيبتنا فى بلدنا وأنفسنا بوجودهم الكثيف المستفز الخادع.