رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ذاكرة الثقافة الوطنية


للدكتور عبدالمحسن صالح كتاب صغير اسمه «ما هو الموت؟». يقص فيه تجربة أجراها العلماء على كلب لمعرفة «ما هو الموت؟». يقول إنهم فصلوا كل أعضاء الكلب عن جسمه، ‏واحتفظوا خلال ذلك برأسه فقط حيا منزوعا من البدن، وقاموا عبر الأنابيب بضخ المحاليل والدماء اللازمة إلى الرأس، فبدأ الكلب يفتح عينيه، ويتطلع بهما إلى ما حوله، ثم تعرف إلى صوت ‏صاحبه وأخذ يلعق يديه.‏
الموت إذن هو موت العقل، أى موت الوعى والذكريات والإرادة، وعقل مصر نابض بالحياة فى ثقافتها الوطنية، وفى سعيها الفكرى والبطولى إلى التحرر، والعدل، والتطور، والمساواة بين كل ‏أبنائها. وعندما نصون ثقافتنا فسوف نتعرف دائما إلى صوت الوطن، ونفتح عيوننا ونغلقها على ذلك الصوت، وفاء وافتداء ومحبة. وفى ذاكرتنا الثقافية، فى عقلنا، مرتكزات نهتدى بنورها، مثل ‏صيحة رفاعة رافع الطهطاوى: «ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة نبنيه بالحرية والفكر والمصنع».‏
وتوجز هذه العبارة متطلبات التطور المصرى كله فى التنمية والاستقلال والحرية، كما تلخصها عبارة أخرى لفارس الثورة أحمد عرابى حين قال: «لسنا عبيدا ولن نورث بعد اليوم». ‏
بهذا الفكر تجد قضية مصر المركزية أفضل تعبير عنها، بصفتها قضية الصراع بين شعب يسعى للتحرر، وبين الاستعمار الذى لم يجد فى دمائنا سوى «بترول للاستغلال» على حد قول شاعرنا ‏العظيم فؤاد حداد. لكن تلك الذاكرة تتعرض لتشويه مستمر، ومحاولات حثيثة لإخماد صوت العقل حين يقال لنا إن القصة كلها تكمن فى صراع الحضارات، للتمويه على حقيقة أن الصراع الحقيقى ‏يدور بين شعوب المنطقة والهيمنة الاستعمارية فى سوريا واليمن والعراق وليبيا وجنوب السودان، وأن إسرائيل أداة تلك الهيمنة وعصاها الضاربة، ويقال لنا بنبرة حكيمة إننا نعانى من اعتلال خلقى ‏يجعلنا لا نقبل «الآخر». ‏
ويتجاهل الجميع أن تاريخ حضاراتنا كلها تاريخ التفاعل مع الحضارات الأخرى، وأن تاريخ الثقافة المصرية بالذات هو تاريخ تفاعل الأجناس المختلفة من الأرمن والكرد والعرب والشوام، كما أن ‏أحدا لا يحدد لنا صراحة من هو ذلك «الآخر»، وما إن كان «الآخر» هو الاسم الحركى لإسرائيل أم لا. ‏
وتتواصل محاولات إخماد صوت العقل والذاكرة الوطنية الثقافية بطرح قضية «الهوية» بصفتها قضية لا تجد حلا إلا فى الماضى، أى بالتفتيش عن الهوية المصرية فى الماضى الفرعونى، أو ‏الإسلامى، أو حضارة البحر الأبيض المتوسط، وهذا لتفكيك الانتماء العربى الذى يقوم على مصالح التحرر الوطنى المشتركة، وتركز حملات تشويه العقل وإخماد صوته على فصل قضية ‏‏«الهوية» عن قضايا المستقبل، والنظر إليها كظاهرة ذات جوهر ثابت، تعبر عن «وعى مسبق»، وتجاهل أن العثور على هويتنا الحقيقية ممكن فقط بتعيين ما يواجهنا من تحديات الآن، ومستقبلا، ‏والسعى لتجاوز تلك التحديات. وعندما ندرك أن «الهوية» حالة تتبلور فى الصراع من أجل المستقبل سنجد «هويتنا» الحقيقية بدلا من الهويات المنسوجة من أساطير التراث. ومن أجل إخماد صوت ‏العقل، وذاكرته الوطنية، يتم إنفاق الملايين على ترويج ونشر مدارس ومفاهيم أدبية وفكرية محددة تؤكد وتعمق استغراق الأفراد فى عوالمهم الذاتية الخاصة، بهدف عزل الفرد عن الآخرين، وتجزئة ‏المجتمع، وتشتيت قواه لكى لا تحتشد حول أهداف الوطن. وتغيب هنا تماما صلة التفاعل العضوية بين حرية الفرد وحرية الآخرين. يشيعون أن الحرية أمر فردى، وأن الثقافة حيادية، تقف على ‏مسافة من جميع الصراعات والقضايا، وأن عصر القضايا الكبرى فى الأدب قد ولى وغرب، وعامة فإن علينا وفقا لكل تلك المزاعم أن نقر لهم بعجز الإنسان عن إدراك قوانين الواقع أو تغيير ذلك ‏الواقع إلى الأفضل. ‏
وباللجوء إلى شراء أكبر شريحة من المثقفين عبر جمعيات التمويل الأجنبى يتم ترويج ونشر كل ما من شأنه أن يخمد صوت العقل، ويميت الثقافة، والذاكرة الوطنية، وصولا إلى إغلاق عينى ‏العقل الذى يحفظ صوت الوطن، ورائحة حقوله. لكن الذاكرة المصرية بتاريخها العريق عصية على التدمير، وسوف تظل تبعث كل لحظة صور وحياة وأقوال وكتب مفكريها، وثوارها، وفنانيها، ‏وكتابها تحت شعارها الغالى: «..ليكن الوطن محلا للسعادة المشتركة، نبنيه بالحرية والفكر والمصنع»، هذه الذاكرة التى لم تكف عن المقاومة منذ أن سجلت وحفظت: «لسنا عبيدا ولن نورث بعد ‏اليوم» حتى «لا تصالح ولو قلدوك الذهب». ‏