رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أحمد عبدالله.. النغمة المفقودة


فى السادس من يونيو الجارى، تحل الذكرى الثانية عشرة لرحيل أحمد عبدالله قائد الحركة الطلابية عام ١٩٧٢، وكان نموذجًا فريدًا من نوعه فى تاريخ النضال الوطنى. فقد كانت تحوطه هالة سحرية من شجاعة وكبرياء وذكاء حاد، إلى جانب اهتمامه العميق بأحوال الآخرين وقدرة مدهشة على الخطابة والتألق بين الحشود.
كانت مواهبه تلك كلها تؤهله ليكون زعيمًا، أو ليكون «الزعيم»، بعد أن ثار الطلاب إثر خطاب الرئيس السادات الذى أجل فيه حرب التحرير متذرعًا بالضباب السياسى!، فأخذت الجامعة تغلى، وتشكلت اللجنة الوطنية للطلبة بزعامة أحمد عبدالله، بشعارها «كل الديمقراطية للشعب، كل التفانى للوطن»، وطالبت مظاهرات الطلاب بإعداد الجبهة الداخلية لحرب تحرير شعبية، وتسليح الجماهير بمن فيهم الطلبة، ورفض الحلول السلمية، وفرض الضرائب على الدخول المرتفعة، وقطع العلاقات مع أمريكا، ودعم نضال الشعب الفلسطينى. وفى ٢٤ يناير ١٩٧٢ شغل الطلاب ميدان التحرير كله، وكتب أمل دنقل: «أيها الواقفون على حافة المذبحة.. أشهروا الأسلحة»!، وألقى السادات خطابًا أشار فيه إلى أحمد عبدالله بقوله: «الواد أبوكوفية حمرا»!، وفى اليوم ذاته تشكلت لجنة وطنية ثانية من الأدباء تناصر مطالب الحركة ضمت: أحمد عبدالمعطى حجازى، رضوى عاشور، عبدالحكيم قاسم، عزالدين نجيب، أحمد الخميسى، وآخرين، ودعت لمؤتمر موسع بنقابة الصحفيين، وأصدرت بيانًا موثقًا فى كتب الحركة بهذا الصدد.
كانت الانتفاضة الطلابية فى ١٩٧٢ امتدادًا لدور الطلاب الوطنى منذ ثورة ١٩، ثم انتفاضة ١٩٣٥- ١٩٣٦ التى برز فيها اسم عبدالحكم الجراحى، ثم فى اللجنة الوطنية العليا للعمال والطلبة ١٩٤٦، وفى مظاهرات فبراير ١٩٦٨، وكان كل ذلك التاريخ يسكن ضمير جيل طلاب السبعينيات الذى هب باحثًا عن تحرير بلاده من دنس غزوة ٦٧ الإسرائيلية. ومع انحسار الحركة بعد ذلك كان أحمد عبدالله هو المتهم الأول فى قضايا ٧٣، وأدى امتحاناته فى سجن طرة، حيث حصل على بكالوريوس العلوم السياسية فى العام ذاته، ومع انحسار الحركة الطلابية سافر أحمد عبدالله إلى لندن على نفقته الخاصة، حيث حصل على دكتوراه العلوم السياسية من جامعة كامبريدج (إنجلترا) عام ١٩٨٤. وعاد إلى مصر وبينما ظل الكثير من قيادات الحركة الطلابية أسرى صور الزعامة الوردية التى غربت، نفض أحمد عبدالله عنه تلك الصور، وراح يؤسس لمركز «الجيل» فى حى عين الصيرة ليخدم به أبناء الحى، دون أن يستسلم لأسى الذكريات الغاربة. وترك عددًا من الكتب والأبحاث المهمة منها كتابه «الطلبة والسياسة» الذى أراد به أن ينقل للجميع رسالة مفادها أن الحركة الطلابية الوطنية فى مصر لن تموت، وأنها ستبقى، مهما سبحت فوقها الغيوم، وظل وفيًا لذلك المركز حتى وافته المنية فى السادس من يونيو، وحده، داخل شقته، فانطفأت إلى الأبد صورة الموهبة النادرة لإنسان كان يخطب فى الطلاب فينصتون إليه مأخوذين به وبإشارات ذراعيه الطويلتين الرفيعتين وهو يخطف الألباب والأنظار بسحره الخاص وقدرته على استثارة الحماسة والأمل.
وقد افتقدتُ أحمد عبدالله بشدة فى انتفاضة يناير ٢٠١١ التى توافرت لها ظروف مواتية لثورة أعجزها أنها بلا قيادة تحشد الناس حولها وتحصد الغضب وتمضى بثماره للأمام. وكان أحمد عبدالله وحده- من بين عشرات القيادات الوطنية التى التقيتها- يتمتع بهذه القدرة القيادية التى يبدو أنها قدرة خاصة قلما تجود بها الحياة. بهذا الصدد يقول خالد محيى الدين فى كتابه «الآن أتكلم» عن جمال عبدالناصر إن ضباط الثورة خلال اجتماعاتهم الأولى لم ينتخبوا أو يختاروا قائدًا لهم.
كما أن عبدالناصر لم يطرح نفسه زعيمًا لهم، لكن-على حد قول خالد- كان هناك شعور ضمنى بديهى بأن ذلك الرجل هو الزعيم بحكم شخصيته!، كذلك كان أحمد عبدالله، يشعر كل من يجلس معه بأنه- بداهة- الزعيم، بسحره، وطبعه الحاد، والطاقة العصبية الحارقة التى تتوهج بها روحه كلها دون توقف مثل قطعة ألماس تشع بنور صاف حاد لا يتكرر. من الذى عرف أحمد عبدالله ولم يحبه؟. لا أحد. ولقد كف المغنى عن الإنشاد لكن غنوته مازالت باقية: «كل الديمقراطية للشعب، كل التفانى للوطن».