رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

اللمعة والفراغ.. نمط تفكير


كثيرًا ما تصادفنا فى الصحافة وفى الكتب وفى النقاش الحى تعبيرات لامعة تبدو كأنها صياغة محكمة لفكرة وجيهة، وتشغلنا لمعة وبريق التعبير عن التمعن فيه. معظم تلك التعبيرات تعميم مطلق، مثلما فى العبارة الرائجة «الزمن الجميل».

أى زمن هذا؟، متى؟، لا تدرى، لكن العبارة لامعة. انظر أيضا عبارة شهيرة أطلقها محمد حافظ رجب من كتاب الستينيات حين قال: «نحن جيل بلا أساتذة»!، عبارة لامعة لكنها فارغة لأنه ما من جيل بلا أساتذة وإلا فمن أين كتب؟، وعلى أيادى من تعلم الكتابة؟!.

والآن انظر ما قاله أدونيس فى لقاء معه بقناة الميادين: «كل تاريخ المسلمين حرب متصلة بين بعضهم البعض وارجعوا إلى التاريخ».. عبارة أن «كل تاريخ المسلمين حرب متصلة» كانت موضع إعجاب الكثيرين!، فهى مثل أغلب العبارات اللامعة فارغة من أى فكرة دقيقة أو صحيحة!. ولن أتوقف هنا عند أدونيس قائل العبارة وهو فى تقديرى لا تربطه أدنى علاقة بالشعر، رغم الضجيج الذى يثيره، لكنى أقول إن فكرته غير صحيحة إلا إذا صح بنفس النظرة الدينية القول بأن «كل تاريخ المسيحيين حروب متصلة».
ونحن نخطئ فى الحالتين عندما نرى ونفسر التاريخ بمنظور دينى. وفى التاريخ لا يوجد ما يسمى على العموم «تاريخ المسلمين»، ولا ما يسمى على العموم «تاريخ المسيحيين»، لكن تاريخ شعوب محددة فى ظروف تاريخية واقتصادية وفكرية محددة، فإن جاز هراء أدونيس لقلنا بالفم الممتلئ إن تاريخ المسيحيين هو حرب متصلة بينهم اندلعت أقوى ما تكون فى حربين عالميتين قتل فيهما ٣٠ مليون نسمة. وارجعوا للتاريخ ما دام أدونيس يحب الرجوع للتاريخ!. الأقوال والأحكام العامة التى تتجاهل أين؟ ومتى؟ ومن تحديدًا؟ هى أفضل طريقة للتفكير الخاطئ المريح!.

وبهذا الصدد أدلى الكاتب الروسى أنطون تشيخوف بملاحظة قال فيها: «إن كان هناك ثلاثة أشخاص يقفون على خط واحد، أحدهم قسيس، والثانى ليبرالى، والثالث شيوعى، وإذا أنت صحت فى الثلاثة هاتفا: «إلى الأمام» فسوف يندفع كل منهم فى اتجاه غير الآخر، لذلك إذا قلت «إلى الأمام» فحدد ما الذى تقصده بالضبط، وأى اتجاه تعنى!». وهذا نمط آخر من التفكير يتطلب التحديد، والدقة، وتفادى التعميم المريح. ربما لذلك قال أحدهم: «إن كل التعميمات خاطئة، بما فيها هذا التعميم»!. وأحد أسخف التعميمات التى راجت القول بـ«حكم العسكر» على أساس أن حكم العسكر ينطوى على الفاشية، وتغييب الديمقراطية، بينما المقصود بترويج تلك المقولة هو مساواة فترة الصعود الثورى لثورة يوليو بفترات انتكاسها، ووضع عبدالناصر وبرنامجه الاجتماعى والاقتصادى على قدم المساواة مع السادات ومبارك.
أضف إلى ذلك أن هذه النظرة، مثلها مثل نظرة أدونيس، تعمم ولا ترى كل حالة على حدة، ولا يدركون أن الشىء الجوهرى هو: عن أى الطبقات يعبر النظام الحاكم بغض النظر عن كونه عسكريا أو مدنيا. وكم من أنظمة حكم مدنية اتسمت بالفاشية وتغييب الديمقراطية وسحق أبسط الحريات!. هل نذكر بحكم محمد مرسى المدنى؟، أم بعشرات من رؤساء الدول الأوروبية الذين جثموا على صدور بلادهم من غير أن يكونوا «عسكر»؟. الأمثلة لا تحصى، وتثبت مرة أخرى أن هناك الكثير من العبارات اللامعة، الفارغة، التى تشكل نمط تفكير سهلا ومريحا ومخادعا.
ومن العبارات اللامعة التافهة القول بأن عصر القضايا الكبرى قد انتهى!. ويحاول من يروج لهذه المقولة أن يدفع الناس بعيدا عن قضاياهم الكبرى، أى عن تحرير أوطانهم، والسعى وراء الحرية والعدل الاجتماعى، وفى كل تلك العبارات سترى بريقا ولمعة فإذا حدقت بالعبارة وأمعنت النظر فيها لن ترى سوى الفراغ، ولا شىء مثمر. على هذه الشاكلة يمكن التفكير فى عبارات كثيرة مثل: «ثقافة البترو- دولار» التى لم يفكر أحد قط فى مواجهتها بعبارة «ثقافة الجنيه المصرى».