رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الكاتب الصحفى والحقيقة


يقول الشاعر العظيم رسول حمزاتوف: «من خرج يفتش عن الحقيقة حكم على نفسه أن يبقى دائما فى الطريق». وأظن أن الكاتب الصحفى ينتمى لأولئك الذين يبحثون عن الحقيقة فيظلون دوما على الطريق. يبدأ الصحفى صغيرا ثم يكبر، لكن ما حدث معى كان العكس تماما فقد بدأت وأنا رئيس تحرير مرة واحدة، ولأننى أنا من منحنى هذه الصفة فإنها لم تدم وقتا طويلا. كان ذلك حين خطر لى وأنا فى العاشرة من عمرى أن أصدر مجلة، فاشتريت كراسة صغيرة من كراريس المدارس وسجلت على غلافها «مجلة اليوم»، وكتبت تحت اسم المجلة بعناية بالغة «رئيس التحرير فلان الفلانى»، ثم وهو الأهم: «الثمن قرشان».
فى عام ١٩٦٠ كان «قرشان صاغ» ثروة لأى صبى. قمت بعد ذلك بكتابة المقالات، ولم يكن المقال يزيد على عشرة أسطر بخط متضخم، ولأننى لم أر مجلة يحررها كاتب واحد باسمه من الجلدة إلى الجلدة قررت أن أغير اسمى من مقال لآخر. فرغت من العدد الأول ووقفت عند باب شقتنا أسلم العدد لكل قريب ساقه سوء حظه إلى زيارتنا، ثم أقف أمامه حتى ينتهى من القراءة فى لحظة فأطالبه بالقرشين بكل ثقة، وأيضا بالعدد لأنه ليس لدىّ سوى هذه النسخة!، بسبب المجلة أوشك أقاربنا أن يكفوا عن زيارتنا، فتعرضت صحافتى إلى الرقابة والمصادرة حين منعتنى والدتى من إصدار عدد آخر!، هكذا بدأت رحلتى مع الصحافة يسيرة دون مشقة.
فيما بعد التحقت بالعمل فى مجلة الإذاعة والتليفزيون وكان مقرها يقع فى شارع المبتديان فى مواجهة دار الهلال، ثم انتقلت للعمل مع الكاتب الكبير يوسف السباعى فى منظمة التضامن وكانت تصدر مجلة اسمها «لوتس»، وكنا ثلاثة نعمل معا: أنا والشاعر أمل دنقل، وأحمد فؤاد نجم، لكننا لم نكن نداوم على الذهاب إلى أن استدعانا السباعى ذات صباح وهدد بفصلنا إن لم ننتظم فى الحضور، فقال له أحمد فؤاد نجم: «لكن إن فصلتنى هذه المرة فستصبح المرة الثالثة التى تفصلنى فيها يا يوسف بك»!، فاستغرب السباعى قائلا: «وإيه يعنى؟». فقال له نجم بما حباه الله من سرعة بديهة: «فى هذه الحال سنحتاج إلى محلل لكى أعود إليك»!، وانفجر السباعى ضاحكا وصرفنا نحن الثلاثة يائسا من انتظامنا. وظلت الصحافة حتى ذلك الوقت مفهوما مطاطا بالنسبة لى، إلى أن وقعت على كتاب «الصحافة حرفة ورسالة» لسلامة موسى الصادر عام ١٩٦٣، فغير نظرتى إلى الصحافة وجعلنى أدرك أن دور الصحفى هو بالضبط كما قال رسول حمزاتوف البحث عن الحقيقة والبقاء دوما على ذلك الطريق.
وتتعرض معظم مقالات الكتاب لوضع الصحافة المصرية خلال فترة الاحتلال الإنجليزى، وكيف أن سلطات الاحتلال أغلقت ما بين ١٩٢٠ و١٩٣٠ أربع عشرة جريدة كان يصدرها عبدالقادر حمزة لمعارضتها الاحتلال، ويضرب سلامة موسى مثلا بالتعطيل المتعمد للصحافة الوطنية وذلك حينما اشترى لجريدة البلاغ مكنة طباعة بسبعة آلاف جنيه فأوقف إسماعيل صدقى عملها حتى باعتها الجريدة مرغمة بأبخس ثمن. ومع أن الكتاب تأريخ للصحافة قبل ثورة يوليو، إلا أنه يحدد فى خطوطه العامة دور الصحافة فهى: «عين الشعب على الحاكمين.. التى تعين الأخطاء وتفضح الخيانات وترتب المسئوليات»، ويضيف موسى: «يجب على الصحفى الشريف أن يشتبك وألا يبالى بما يؤدى إليه هذا الاشتباك إلى التورط فى الحبس أو الوقوع فى الاضطهاد.. إذ عليه أن يتحمل كل ذلك باعتباره جزءا من حرفته بل من شرف حرفته». ثم ينتقل مبكرا إلى الربط بين الصحافة والأدب قائلا: «إن الصحفى العظيم، كما أحب أن أكرر القول، هو الذى يرفع الصحافة إلى الأدب.. والصحافة كالشعر والأدب والفن..».
وهو الرأى الذى عبر عنه الروائى العظيم جابريل ماركيز حين اعتبر أن الصحافة تقع فى نطاق الأدب. ومازالت نظرة سلامة موسى صحيحة جديرة بالإحياء والتذكير خاصة ونحن احتفلنا والعالم كله، ٣ مايو الماضى، بيوم حرية الصحافة، وبدورها، وكتابها، وأقلامها، ومفكريها، وتضحياتها، وقد قطعت طريقا طويلا نسبيا فى الكتابة الصحفية، وتعرضت -كما قلت من قبل- للمنع والرقابة حين أوقفت والدتى صدور مجلة «اليوم» حرصا على أقاربنا، وكتبت بعد ذلك على مدى ثلاثين عاما فى صحف مصرية مختلفة وفى عدد من المجلات العربية، لكنى مازلت إلى الآن أتهيب الكتابة فى كل مرة أمسك فيها بالقلم، وأشعر أننى أخرج وأنضم إلى الكثيرين «بحثا عن الحقيقة» وأن هذه الرحلة مسئولية ضخمة يتجدد الشعور بها مع كل كلمة وفاصلة ونقطة، خاصة حين يمتد وراء الصحفى تاريخ صحافتنا المصرية الطويل بكل ما يضوى فيه من مواقف مشرفة دفاعا عن الحرية والوطن والتطور.