رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

على الأعمى أن يسير مع دليل يرشده


تنشد الجوقة فى مسرحية «أنتيجونى» لسوفكليس: ما أكثر العجائب! لكنك لن تجد بينها عجيبة أعجب من الإنسان، يتحرك الإنسان على البحر الأغبر، مستعينًا بالريح والعاصفة، مجترئًا على الأغوار والغوارب.. حتى أقدم الأرباب، الأرض، الأرض التى لا ينضب معينها، يقبض الإنسان على عنانها بمحاريثه، ووطأة جياده الثابتة، يشق تربتها ويقلبها كل سنة، اللغة والفكر اللطيف السريع كالريح، تعلّمها الإنسان كما تعلّم طرائق العيش فى البلدة والمدينة، تؤويانه من الصقيع الكالح، وتنجيانه من سهام المطر، داهية، داهية، هو الإنسان.
تعالج مسرحية «أنتيجونى»، التى كتبها سوفكليس قبل أربعة قرون من ميلاد السيد المسيح، قضية التمرد على نظام الحكم المستبد، من خلال الصراع بين «أنتيجونى» الأخت التى ترفض قرار الملك «كريون»، ملك طيبة، بعدم دفن أخيها لأنه، حسب الملك، لا يستحق أن يُعامل بكرامة ويُدفن فهو يمثل الشر، فيما يسمح بدفن أخيها الآخر الذى قُتل معه لأنه يُمثل الخير.. ومفهوم الخير والشر مفهوم نسبى فالخير هو من كان حليفًا للملك والشر هو من كان عدوًا محاربًا له.
تعالج هذه المسرحية قضية من أهم القضايا فى تاريخ الإنسان ألا وهى: أين ينتهى حق الحاكم ومن أين يبدأ حق الشعب؟.. عند أى نقطة يكون عصيان أمر الحاكم أو القوة المهيمنة شيئًا لا مفر منه، حتى وإن كان العقاب الدفن حيًا فى قبر صخرى بين الأموات؟ كما فعلت أنتيجونى عندما تحدت سلطة الملك وقامت بدفن أخيها، رغم العقوبة التى أعلنها الحاكم إذا أقدم أحد على عصيان أمره.
تخاطب أنتيجونى الملك وتقول: أعطنى المجد! وأى مجد يمكننى أن أفوز به أكثر من أن أعطى أخى دفنًا لائقًا؟ وهؤلاء الناس يوافقوننى جميعًا، ولولا أن شفاههم يغلقها الخوف، لمدحونى كذلك.. يا لحظ الطغاة، إنهم يملكون امتيازات القوة، القوة الفاسدة، وهى أن يُرغموا الناس على قول وفعل كل ما يرضيهم! يحاول المقربون من الملك نصيحته بعدم معاقبة أنتيجونى، ينصحه ابنه هيمون: إن رجل الشارع يخشى طلعتك، إنه لا يقول أبدًا فى وجهك شيئًا لا يرضيك، ولكن مهمتى أن أصيد لك الهمسات فى الظلام، فأرى كيف تبكى المدينة هذه الفتاة الصغيرة.
تأخذ «كريون» العزة بالإثم، ويقول: وهل طيبة على وشك أن تعلمنى كيف أحكم؟ فيضع الابن المحب كلمته الأخيرة أمام الحاكم الذى استشرى فيه داء الطغيان فلا حيلة فى شفائه: ليست هناك مدينة على الإطلاق يحكمها رجل واحد بمفرده!
ومع فشل محاولة الابن، يُنشد العراف الأعمى ترسياس: على الأعمى أن يسير مع دليل يرشده.
إن المسرحية تطرح إشكالية كبرى حول الصراع بين قوتين، ترى كل منهما أنها على صواب.. أنتيجونى تساندها الأعراف وروابط الأخوة والروح الإنسانية، والملك تسانده القوانين التى تدين من يُعارض أو يُعادى هيبة الدولة.
إن «أنتيجونى» هى نتاج التفكير الإنسانى الواعى، وسوف يظل الناس يقرأون هذا العمل الخالد بما يطرحه من إشكاليات وأفكار، وسيظل العقل الإنسانى يستلهم منها أفكارًا طالما كان قادرًا على التفكير، متحررًا من الاستعباد، وليس هناك أقسى من استعباد استبعاد العقل.