رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المجاملة والنفاق الاجتماعي


العربى مجامل بطبعه، يراعى مشاعر الآخرين كما يحب للآخرين أن يراعوا مشاعره، ورث العديد من القيم الأصيلة التى أسهمت فى تشكيل هذا الجانب من ثقافته، وبمرور الزمان صارت طبعًا وممارسة حياة، بل أسهمت الأديان فى التأكيد عليها، مثل: الكلمة الطيبة صدقة، وابتسامتك فى وجه أخيك صدقة، والصدقات تقى مصارع السوء، وقوله تعالى: «ومثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء»، وغيرها كثير مما أسهم فى تشكيل وعى العربى ووضع الإطار لحياته، وتكاد تكون المعاملات هى القسم الوحيد المتفق عليه فى كل الديانات من الأقسام الثلاثة «العقائد، والعبادات، والمعاملات»، وهو ما كان له الأثر فى ترسيخ هذه القيم وتدعيمها مجتمعيًا.
غير أن القيم فى نهاية الأمر ليست ثابتة فى ممارساتها وأبعادها، وإنما يطرأ عليها التغيير بفعل تطور الزمن وتشابك وتعقد العلاقات فيه، وهو ما غاب عن الوعى العربى، على الرغم من تحديث عرقيات كثيرة غير عربية لقيمها وتقاليدها فى ضوء متغير الحياة من حولها، لكننا ما زلنا نصر على التعامل مع قيمنا العربية بذات الكيفية التى ورثناها عن القرن الأول الهجرى، ومنها أشكال المعاملة الحسنة بما فيها من مجاملة ومراعاة شعور الآخر.
لعل هذه القيمة ليست عيبًا فى ذاتها، وليست مرفوضة فى حياتنا المعاصرة، ولكن الأهم فيها هو الكيفية التى يمكن أن تؤدى بها، وفى أى سياق، ومع أى مستوى من الأفراد المتعامل معهم؟، أى مراعاة الموقف والقرينة، فلا يوجد شىء فى المعاملات الإنسانية يمكن أن يكون على إطلاقه، ذلك أن العالم الآن تحكمه قيم ومفاهيم أخرى، هى قيم ما بعد الحداثة، مثل مفهوم القوة «القوة الفكرية، والعلمية والإنتاجية... إلخ»، ومفهوم أو قيمة الفاعلية «القدرة على التأثير فى الحياة بتدرج مستوياتها»، ومفهوم الإنتاجية «القدرة على الإنتاج من القيمة أو المفهوم أو الفكرة» إلى آخر هذه المنظومة الجديدة والمتجددة تبعًا لما يقره العالم، والأهم لما يضعه لها من تعريفات وضوابط دقيقة تجعل ممارستها فعلًا قابلة للقياس وليس محتكمًا إلى الوازع الداخلى فقط «الضمير»، ثم الأهم من ذلك هو غياب المجاملة تمامًا فى التعامل مع هذه القيم، فالمجاملة تم تحديدها على أنها فعل اجتماعى محض لا يمكن إدخاله فى السياقات العملية أو المصلحة العامة للدول والشعوب.
ولأن العربى عاطفى بالضرورة، يفكر بمنطق الحب والكره كما هو حادث حتى فى اختياراته السياسية وتعبيره عن صوته الانتخابى مثلًا، وليس بالمنطق العقلى الذى يسود العالم الآن، لذا فقد كان من الطبيعى أن تختلط مفاهيمه عن المجاملة والمعاملة الحسنة، وتخرج من إطار الاستخدام فى المواقف الإنسانية إلى إطار العمل والإنتاج، والحياة العلمية، ومؤخرًا المجاملة فيما لا تجوز المجاملة فيه، ومنه:
المجاملة العلمية، سواء فى تمرير طالب أثناء نشاط تعليمى أو اختبار فرعى، أو فى منح شهادة علمية «دبلومة، ماجستير، دكتوراه»، وسواء كانت المجاملة للأستاذ، أو للباحث، أو مراعاة لظروفه الإنسانية من مرض أو خلافه... فإن هذا الشكل من أشكال المجاملة حادث الآن فى كل أرجاء الوطن العربى، على الرغم من إنكار القائمين به، نتيجة لتصوراتهم المخطئة حول مفهومهم لهذه المجاملة أو ممارساتها، فقد يراها البعض نوعًا من أنواع التراحم، وقد يراها آخرون مراعاة للسياق العام السائد، وقد يراها غيرهم استجابة لشبكة المصالح المتبادلة بينه وبين من يجاملهم.. إلى آخره من عشرات الرؤى والتبريرات التى يمكن أن يتم سوقها فى هذا الصدد، ولديهم فى ذلك من وسائل الإقناع المزيد والمزيد.
المجاملة فى عدم كشف العيوب والأخطاء للآخرين خشية خسرانهم، وبخاصة أن أصحاب العقلية العربية لا يحتملون الانتقاد ولا يقبلونه مهما كان صحيحًا، على الرغم من قناعات الجميع بالحديث النبوى «رحم الله امرئ أهدى إلىّ عيوبى».
المجاملة فى تزيين أفعال المسئولين وذوى السلطة وأصحاب القوة، خشية على المصالح الشخصية جدًا، أو بدافع النفاق الشخصى حرصًا أيضًا على المصلحة الشخصية.
لقد تسربت هذه المجاملات بأنواعها لحياتنا إلى الدرجة التى تطورت بعض أشكالها ووصلت إلى الوساطة والمحسوبية، مما أفسد كثيرًا من الوظائف والمهن التى بفسادها يفسد المجتمع، فالمجاملة فى التعليم وتمرير مَن لا يستحق ستؤدى إلى خريج سيفسد أجيالًا من بعده، لأن ذلة العالِم يزل بها عالَم كما ورد فى الأثر، ولأن الأخطاء التى نكتسبها فى تعليمنا، وبخاصة فى الصغر لا يمكن محوها إلا بعد جهود جهيدة، هذا إذا امتلكنا الوعى بها.
والمجاملة فى الطب ستؤدى لتخريج أطباء سيرتكبون الكوارث فى حق مرضاهم، وما أكثر القضايا التى تكشفها وسائل الإعلام عن أخطاء الطب وضياع الأرواح بسببها، هذا فيما يتم الكشف عنه.
والمجاملة فى الإلحاق بمؤسسات الدول الحساسة مثل النيابة والقضاء والشرطة ستؤدى إلى خلل فى تطبيق القوانين وإفساد للدولة والمجتمع، والعودة مرة أخرى إلى زمن الاستقواء بالمال والسلطة، وليس زمن العدالة الاجتماعية التى حققتها كثير من الشعوب ونهضت بسببها.
والمجاملة فى عدم تطبيق القانون على فئة دون فئة ستشجع غير الفاسد على أن يفسد، والمجاملة فى إلحاق من لا يستحق بوظيفة، ستؤدى لإعاقة أهداف التنمية على أكثر من مستوى وفى اتجاهات عدة، وهكذا، ناهيًا بالطبع عن الخلل الاجتماعى الذى يمكن أن يحدث لبقية الأفراد حتى من غير المشاركين أو المستفيدين ممن يلمسون ذلك فى واقعهم ومن حولهم.
المجاملة والنفاق الاجتماعى من أولويات محاربة الفساد الذى تبدأ به الدول بآلية بسيطة وسهلة وهى تفعيل القوانين وسيادتها على الجميع دون تمييز، وليس بمنطق «وجود النص يغنى عن تطبيقه».