رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لا تدفنوا رءوسكم فى الرمال «2»


حتى عام ١٩٧٥، كانت أجور الصحفيين هى الأعلى فى الدولة، باعتبارهم النخبة والصفوة، تسبق القضاة وأساتذة الجامعات، وما كان أحدٌ يملك سلطة فصل صحفى من عمله، بقدر ما كانت وسيلة العقاب القاسية، هى المنع من الكتابة والنشر.
وكانوا أيضًا، هم الفئة الوحيدة التى ليس لها سنٌ للمعاش، لولا القانون الذى أصدره ترزية عهد الرئيس الراحل أنور السادات، تحقيقًا لرغبته فى إقصاء الكاتبة الصحفية الراحلة أمينة السعيد عن منصبها، رئيسًا لتحرير مجلة المصور، ورئيس مجلس إدارة دار الهلال.. وقد تجمدت الدماء فى شرايين العاملين فى بلاط صاحبة الجلالة، خلال فترة الثلاثين عامًا التى قضاها الرئيس الأسبق حسنى مبارك فى الحكم، عندما حرص على بقاء قيادات المؤسسات الصحفية القومية فى مناصبهم طوال عهده دون تغيير، وما تمخضت عنه هذه الفترة من فساد، تكشّفت أبعاده فيما بعد، وقد ترك هذه المؤسسات خرابًا يبابًا، مثقلة بالديون، بعد أن جرفها النهب، وسُرِقت فيها أحلام أجيال متعددة فى تولى المناصب القيادية فى مؤسساتها، وحُرِم العديد من أصحاب الكفاءات المهنية والقدرات الفكرية والملاءة الثقافية من الكتابة فى صحفهم.
وليت الأمر وقف عند هذا الحد، وجاء ما بعده مُضمدًا لجراح الماضى، ومُطلقًا عِقال المهارات المُعطّلة والكفاءات المُجمدة، من القادرين على انتشال هذه المهنة ومؤسساتها من الوهدة والسقوط.. بل إن ما جاء تاليًا، زاد الطين بلّة، بتولى المجلس الأعلى، بتشكيلته الإخوانية القُحّة، فى عام الرمادة الذى عاشته مصر زمن الإخوان، فتولى أنكاد هذه الجماعة مقاليد المؤسسات الصحفية، وتولى أمر إعلام مصر، وزير إخوانى، كل مؤهلاته السمع والطاعة لولاة أمره فى المقطم.. حتى إذا ما تطهرت البلاد من رجسهم فى الثلاثين من يونيو، جاء إلى المجلس الأعلى للصحافة بعدهم، تيار ناصرى، ابتلى المهنة من جديد، ولم يختلف عن سابقه إلا فى عنوان الأيديولوجية، فولوا (أبوكرش) و(مهيطل) و(بطيخة)، وهى أسماء وصف بها أبناء المهنة، بعض من جاءوا على رأس المؤسسات القومية.. وبدلًا من أن يُقيلوا عثرتها، ويخرجوها من أزمتها، بحث بعضهم عما يسد نهم نفسه ويُشبع شرهه إلى المال.. وتأخر الحال، ولم تجد الدولة مخرجًا من أزمة الصحف القومية إلا بدعمها بملايين الجنيهات فى كل شهر، رواتب للعاملين فيها، واستمرارًا لصدور مطبوعاتها.. وقد رأيت فى وقتها، أن ما تقوم به الدولة، ما هو إلا حقنة هواء فى عنق المهنة، تقتل ببطء، ولا تبعث الحياة، وهو ما أصبحت عليه هذه المؤسسات الآن، وهو أيضًا عين ما وصل إليه حال العاملين فيها.
الخطيئة الكبرى الأولى، أن المجلس الأعلى للصحافة جاء بالأصحاب ورفقاء الدرب وزملاء المقاهى، إلى المناصب العليا فى المؤسسات الصحفية، دون النظر إلى مؤهلات أو كفاءات.. جاءوا على غير برنامج منهم لقيادة مؤسساتهم، يكون أساس المفاضلة فى الاختيار، لانتقاء الأفضل نتيجةً والأسرع إنجازًا، لأن الوقت لا يرحم، وعجلة الانهيار تدور بعنفوان.. وعندما خاطب أعضاء المجلس الموقر الحكومة بضرورة الوقوف إلى جانب الصحافة القومية باعتبارها رُمانة الميزان، فى مواجهة إعلام خاص كان قد بدأ فى الظهور، حاملًا أفكار أصحابه، مدافعًا عن مصالحهم، كانت الخطيئة الثانية.. أن وافقت الحكومة على دعم المؤسسات الصحفية دون قيد أو شرط، وجعلت الدعم حسابًا مفتوحًا، لا يقوم الدفع فيه على برنامج إصلاحى بجدول زمنى، أو بخطة استثمارية، ترفع من موارد هذه المؤسسات، كما لم تكن هناك محاسبة على ما أنفقه مسئولو هذه المؤسسات من الدعم الذى حصلوا عليه. وكانت النتيجة أن حصلت هذه المؤسسات على ما يقارب ثلاثة مليارات جنيه، دون خطوة تُذكر فى برنامج إصلاحى.. كانت أموال الحكومة تتجه من وزارة المالية إلى أفواه العاملين فى الصحف القومية، عبر المجلس الأعلى للصحافة، الذى أسهم فى المهزلة، عندما لم يُطالب ببرنامج إصلاحى أو يتابع أى خطوات استثمارية يقوم بها مسئولو هذه المؤسسات. وبالرغم من تشوق العاملين فى بلاط صاحبة الجلالة لتغيير الهياكل التنظيمية التى تحكم منظومة الإعلام، إلا أن الصدمة كانت عنيفة هذه المرة بعد تشكيل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام والهيئتين الوطنيتين للصحافة والإعلام، وما تمخض عنهما من قرارات وإجراءات، للدرجة التى قال عنها أحد رؤساء التحرير الحاليين، إن (التشكيل الأخير للقيادات الصحفية فى المؤسسات القومية مخيب للطموح، فلا أحد منهم يستحق مكانه فيها، حتى أنا!). والنتيجة.. أن بقيت الصحافة القومية تراوح مكانها، تشهد فى كل يوم انحسارًا فى أرقام توزيع إصداراتها، ويعانى فيها العاملون ويلات الحياة، دون أن يشعر بهم أحد أو يسمع استغاثاتهم المتكررة.. والدليل أنهم الفئة الوحيدة التى لم تحصل حتى الآن، على علاوتها الاجتماعية ولا علاوة الغلاء اللتين أقرتهما الحكومة فى يوليو ٢٠١٧، وضلتا طريقهما بين وزارة المالية والهيئة الوطنية للصحافة.. أما نقابة الصحفيين، فأذن من طين وأخرى من عجين.. وذلك حديث الأسبوع القادم، إن شاء الله.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.