رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الدستور» تنشر نص رسالتين بخط يد جمال حمدان لأول مرة

 جمال حمدان
جمال حمدان

«هل كان جمال حمدان شخصية خرافية نقرأ له ونسمع عنه ولا نراه؟».. هكذا كان يتساءل الكاتب الكبير أنيس منصور عن صاحب «شخصية مصر»، الذى احتفظ بعلاقة فريدة معه، كشفها خطاب نادر بخط يد العالم الكبير، حصل عليه المؤرخ الأدبى إبراهيم عبدالعزيز، من «منصور» نفسه.

كان «حمدان» يحب العزلة، لا يقابل أو يراسل أحدًا إلا قليلًا، لذلك نادرًا ما نعثر له على خطابات بخط يده، وحسب «عبدالعزيز»، فإن صاحب «شخصية مصر» كتب خطابات مرتين فقط، الأولى لـ«أنيس منصور»، والثانية لـ«عبدالعزيز» نفسه، تنشرهما «الدستور».

صاحب «شخصية مصر» لـ«أنيس منصور»: معجب بـ«جيل الصابرا».. وأتابعك
بالنسبة لـ«أنيس منصور»، فإن جمال حمدان هو «عاشق الأرض والحجارة والجبال والوديان والأنهار، وكأن هذه المظاهر الطبيعية تتحدث إليه وحده، كان حديثه شعرا وغزلا، فلم يكتب أحد عن أرض مصر وجو مصر وكل ما هو مصرى كما فعل حمدان».
غير أن الشىء الذى يلفت نظر أنيس منصور فى كتابات جمال حمدان هو أنه رجل علم وفن أيضًا، ويمثل له مفاجأة فكرية وبركانا من نوع غريب، فكل ما يخرج منه قوى ملتهب، ولكنه فى غاية النظام والدقة، فهو بركان أخضر يتدفق بالحيوية والنور.

وحسب وصف أنيس منصور، فإن حمدان «نحيف، طويل، ممشوق القوام، دقيق الملامح، حاد الأنف والشفتين والنظرة، ومنظار من زجاج أبيض»، ويضيف: «إذا تحدث إليك، فإنه غائب عنك، ولن ترى على ملامحه إلا نوعًا من الصرامة والحزن، أو نوعًا من التشاؤم النهائى، أى أنه قرر أن الدنيا لا تساوى شيئا، أما الذى يساوى فهو العلم والبحث عن الحقيقة، وقد تفرغ لذلك».

وبكلمات مكثفة ودالة يقول «منصور» عن «حمدان»: «أقفل بابه، راهبا يقلب فى الصخور، ويضعها عند أذنيه، ويسمع ويكتب، ثم يسحقها رمالا بين أصابعه، ويبللها بعرقه، ويضع فيها البذور، ويلقى عليها الماء، ويتفرج ويتغزل ويتعمق ويكتب».

فى نفس الوقت، يحمل «حمدان» لـ«أنيس» تقديرًا من نوع خاص، إلى درجة أنه يسعى للقائه، فى الوقت الذى حاول فيه الكبار لقاءه دون جدوى، وهو ما كشفته الرسالة الأولى التى ننشرها، وتظهر فيها روح «جمال» الساخرة، مع ملاحظة أن هناك كلمات مطموسة فى الرسالة أشرنا إليها بـ(...):
«عزيزى الأخ الصديق الأستاذ الكبير أنيس بك:
أجل تحياتى وعاطر سلامى، وشوقًا كثيرًا، راجيًا أن تكون فى خير حال وصحة (سواء من حيث مضايقات كلاب الجيزة النابحة أو المصران الغليظ.. إلخ).
حاولت أكثر من مرة الاتصال بك تليفونيا، دون جدوى، كما حضرت مرارًا إلى دار أخبار اليوم، لكن لم يكن لى حظ وجودك ورؤيتك. كنت أود أن أسعد برؤيتك على شوق طويل وغيبة مستمرة، وكنت أحب أيضًا أن أهنئك بإنتاجك الرائع المبدع الأخير خاصة كتاب جيل الصابرا الممتاز، كما كنت أتمنى أن أسمع رأيك بالذات فى كتاب ٦ أكتوبر، (...) أرجو ألا يكون قد ضل طريقه إليك شخصيًا وليس (...) بالضرورة، على أية حال، نحن معك بقلوبنا وعقولنا، و(...) راضين وراغبين -بقراءتك يومًا بيوم، كمجرد تعويض لا كبديل.
حتى اللقاء، لك كل حبى وتقديرى وإعجابى، (...)
ولتتأكد أنك فى وجداننا دائمًا، وأن لك منزلة خاصة جدًا بين كل مفكرينا وكتابنا، وأنت تعلم.
المخلص جمال حمدان

رد مهذب على صحفى تحت التمرين.. والأخير: أخفيتها خوفًا على نفسى
«اﻷستاذ الدكتور جمال حمدان السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
بداية أسجل إعجابى الشديد والعميق بشخصيتكم النادرة المثال فى هذا العصر الذى قلما يوجد فيه علماء بمثل تواضعكم وعكوفكم عن كل مغريات الحياة وأضوائها.
ولئن كنت أتوقع الفشل فى مقابلتكم أكبر مما أتوقع النجاح، فإنه يكفينى أن أسجل إعجابى بكم فى نفس الوقت الذى يحدونى فيه اﻷمل أن أحظى بلقائكم، وقد تسألون عن سبب المقابلة فتعرفون أنها مقابلة صحفية فتغلقون بابكم دونى، ولكننى لست صحفيًا بعد، إنما أحاول أن أجد لنفسى مكانًا فى شارع الصحافة، فإننى شاب لم أستكمل السنة الأولى تحت التمرين، وأحاول اللقاء بمفكرينا وأدبائنا لعلهم يساعدوننى على النجاح لشق غابة الصحافة ومسالكها الصعبة.
لقد وجدت تشجيعًا من اﻷستاذ توفيق الحكيم ونشر حوارى معه فى (المصور)، ولكن دون ذكر اسمى ﻷنهم استكثروا علىّ أن أتحدث مع توفيق الحكيم، وقابلت اﻷساتذة نجيب محفوظ وحسين فوزى ولم ينشر حديثهما بعد، ولكن كل هذا رصيد لى حتى آخذ فرصتى، ويحدونى أمل – قد يكون كاذبا – لمقابلتكم وإتاحة فرصة نادرة لى للحوار معكم، ربما كان لها الأثر الكبير على مصيرى ومستقبلى فى شارع الصحافة، خاصة أنه لم يتبق إلا شهر واحد على مرور سنة حتى ينظر فى أمر تعيينى بمجلة (المصور)، ومما لا شك فيه أن فتحكم الباب أمامى فى هذا التوقيت ستكون له نتائج إيجابية طيبة على مستقبل وجودى فى شارع الصحافة الشاق الذى أبحث لى فيه عن مكان، مغتربا عن بلدى دمنهور، محملًا والدى أعباء لا يطيقها فى كل يوم من أيامى فى القاهرة، ولكم عظيم شكرى وتقديرى».
هذا هو الخطاب الذى أرسله الصحفى الشاب- تحت التمرين وقتها- إبراهيم عبدالعزيز للعالم الكبير طالبا لقاءه أو الرد عليه.
يروى «عبدالعزيز» قصة سعيه للقاء حمدان، فيقول: «كنت أعلم أنه لا يقابل أحدا منذ أن اعتزل الحياة العامة منذ أن حرموه من حقوقه الجامعية، وبدأ يتفرغ لنشاطه العلمى، ليصدر أهم إنجازاته (شخصية مصر)، مشيرا إلى أن هذه الموسوعة كانت: «بطلب اﻹعلامى الكبير أحمد سعيد الذى اعترف لى أنه قدمها فى حلقات فى إذاعة صوت العرب فى الستينيات باسم (قدر مصر)».
عرف «عبدالعزيز» من ناشر «حمدان» الطريقة التى يمكن أن يفتح له فيها باب شقته المتواضعة بالدور اﻷرضى فى حى الدقى: «لم أكن واثقًا بالطبع من نجاح مسعاى ولكننى حاولت على كل حال، وكنت أتحسب لعدم التوفيق، فكتبت - من باب الاحتياط- رسالة».
وقّع إبراهيم عبدالعزيز الرسالة باسمه وبجانبه العنوان «مجلة المصور- دار الهلال»، كما كتب ملحوظة لـ«حمدان» قال فيها: «سأحضر إليكم فى مثل هذا اليوم من الأسبوع القادم لاستلام ردكم إن تفضلتم بكتابة رد»، لأنه كان أرفق برسالته ٢٠ سؤالًا.
لم يكن الصحفى المتدرب فى «المصور» يتوقع ردًا، لكنه فوجئ ذات صباح رائع برد من حمدان، جاء فيه:
«القاهرة- ٢٦ سبتمبر ١٩٨٣
السيد اﻷستاذ الفاضل إبراهيم عبدالعزيز - المصور، دار الهلال
تحية طيبة، وشكرًا على خطابك الرقيق، ويسعدنى دائمًا أن تتقدم وتنجح.
إيجازا، يؤسفنى- ومن الواضح أنك لا تعلم- أننى مقاطع للصحافة المصرية كجزء من النظام الحالى إلى أن يتغير. وهذا أيضًا يشمل الأحاديث.
أكرر أسفى واعتذارى، راجيًا لك كل توفيق ونجاح، مع خالص شكرى وسلامى».
كالعادة ذيل العالم الراحل خطابه إلى الشاب بـ«المخلص جمال حمدان»، ويعلق «عبدالعزيز»: «لم تكن المفاجأة فى عدم استجابته ولكن فى هذا الخطاب من عملاق الفكر إلى صحفى تحت التمرين يعتذر له ولم يكن مطلوبًا منه حتى أن يعيره اهتمامًا، ولكنها أخلاق العلماء التى يمثلها جمال حمدان».
لكن «عبدالعزيز» أخفى الخطاب الذى وصله، بسبب مصارحة «حمدان» له بعدائه لنظام حسنى مبارك وقتها، يعقب الكاتب: «جمال حمدان له من قيمته وقامته حصانة معنوية تحميه، ولكن خوفًا على نفسى».