رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

يوسف القعيد: جمال حمدان مات مقتولًا بعد بدئه إعداد كتاب عن إسرائيل

جريدة الدستور

- كشف عن 3 أدلة تنفى تسبب تسخين الطعام فى الواقعة من بينها «الخادمة الشهرية»
- لم يعان أى أمراض.. كتبه الأخيرة اختفت و«التشريح» دفع أسرته لتجاهل طلب التحقيق
- رفض عرض الأسد لتأليف «شخصية سوريا».. و«رمى طوبة» السادات بعد «كامب ديفيد»
- كان يرسم أغلفة كتبه بنفسه.. يعلق صور حبيبته البريطانية فى منزله.. ويأكل الطعام باردًا
- لم يُكَّرم فى حياته ولا خلال عزائه بشكل لائق.. وأطالب بإطلاق اسمه على مدرجات كلية الآداب


كشف الأديب الكبير يوسف القعيد تفاصيل علاقته بالجغرافى الراحل جمال حمدان، بجانب حيثيات وفاته، وأسباب اعتقاده فى أن تلك الوفاة كانت ناتجة عن مؤامرة خارجية لإنهاء حياته.
وتحدث، خلال حواره مع «الدستور»، عن أسرار اللقاء الأول الذى جمعه بـ«حمدان»، وسمات شخصيته، ورغبته الدائمة فى الانعزال عن المجتمع، بالإضافة إلى علاقته الخاصة برؤساء مصر، وأسباب رفضه معاهدة «كامب ديفيد»، بالإضافة إلى آخر المؤلفات التى كان يعمل عليها، وحرمنا رحيله المفاجئ من إتمامها.

■ بداية.. كيف كانت علاقتك بالراحل جمال حمدان؟
- كانت تربطنى به صلة إنسانية، بدأت منذ لحظة وفاة الرئيس جمال عبدالناصر، ففى هذه اللحظة كنت بجوار كشك «عم مدبولى» لبيع الكتب فى وسط البلد، بميدان سليمان باشا، وكان الراديو يذيع القرآن الكريم، ثم توقف فجأة، وأعلنوا نبأ وفاة عبدالناصر.
فى هذا الوقت، كنت مجندا فى الجيش، وكنت خارج وحدتى فى إجازة، وقررت أن أذهب إلى قهوة «ريش»، التى كنا نتقابل فيها مع نجيب محفوظ، وعندما مررت جوار «عم مدبولى» وجدته يبكى بكاء شديدا، فتوقفت للحديث معه. وأثناء ذلك أتى رجل أنيق، يرتدى بدلة سوداء، وقميصا أبيض، و«ببيون»، وكان أنيقا أكثر مما ينبغى، ثم قال فجأة: «كلنا هنموت»، محاولا مواساة «مدبولى»، وعندما تعرفت عليه، عرفت أن اسمه جمال حمدان، ثم عرض على أن نذهب إلى القهوة معا، ثم نشأت بيننا علاقة صداقة فيما بعد.
■ ما أهم سماته الشخصية التى لاحظتها فى هذه الفترة؟
- أهم سماته أنه كان زاهدًا فى الحياة ومتعها، فلم يكن لديه تليفون، وحينما طلبت منه رقم تليفونه، أعطانى رقم محل عصير قصب، كان قريبا من منزله، لذا لم أكن أستخدمه، كما أنه أعطانى عنوان منزله، فى شارع «أمين الرافعى»، وفى المرة الأولى ذهبت إليه دون موعد سابق، وكان لا يخرج من منزله إلا نادرا، وفتح لى وهو يرتدى «روب عتيق»، أتى به سابقا من لندن.
وكان له «سيستم» فى الخبط على الباب يعطيه لمن يرغب فى لقائهم، فهو لا يفتح باب منزله للجميع، بل يكون على الطارق أن يخبط الباب مرتين، ثم ينتظر قليلا، قبل الخبطة الثالثة، التى كانت لها طريقة محددة، فلو التزم الطارق بذلك يفتح الباب، ولو خالف الطريقة، فإن الباب لن ينفتح أبدا، مهما حدث.
■ كيف كان منزل الراحل؟
- بيته كان شديد التواضع، فهو عبارة عن غرفة وصالة، تكشف عن تواضع غير عادى، وحتى ملامحه التى كانت تبدو لمن لا يعرفه عنيفة وحادة، كانت تكشف للمقربين منه عن شخص عذب الطباع وفنان، وكثيرون لا يعرفون أنه كان يحب الرسم، وأنه هو من رسم أغلفة كتبه، وكان منزله يضم بعض اللوحات لفتيات جميلات، ولا أعرف ما مصير هذه اللوحات بعد ذلك، كما لم يكن يملك مكتبة خاصة فى منزله، بل يفضل الذهاب لاستعارة الكتب من المكتبات الكبيرة.
■ هل تقصد لوحات الفتاة البريطانية التى كانت معلقة على جدران منزله؟
- نعم، كانت فتاة بريطانية تدعى «فيلما»، ويبدو أنه أحبها أثناء دراسته فى لندن، لكنه لم يحكِ لى عنها بالتفصيل، وعندما سألته عنها محاولا التعرف على بعض أسراره، قال لى: «ما تسألشى».
■ ألهذا لم يتزوج طوال حياته؟
- كما قلت، كان زاهدًا فى كل متاع الحياة، وكان لديه مشروع يعمل عليه، ويركز فيه، ولم يكن يحب الزيارات الاجتماعية، ومن سمح لهم بدخول منزله كانوا معدودين، وأعتقد أنه لم يجر أى حوارات إعلامية أو تليفزيونية أو إذاعية، لأنه كان يرغب دائما فى الانعزال.
■ مَنْ أبرز المترددين على منزله من المشاهير؟
- كانوا أشخاصا قليلين، مثل أحمد بهاء الدين، ومصطفى نبيل، حتى إنه لم يفتح بابه للكاتب محمد حسنين هيكل، لأن «خبطته على الباب غريبة»، وليس متفقا عليها، ما اضطر هيكل لترك خطاب تحت الباب، يطلب فيه لقاءه، فذهب إليه «حمدان» بعد ذلك فى مكتبه، دون أن يلتقيه فى منزله.
■ أى أقربائه كان يتصل به باستمرار؟
- أخته «فوزية» كانت خندقه العاطفى وحافظة أسراره، وأتذكر أنه اشترى لابنتها سيارة، رغم أن حالته المالية لم تكن تسمح بذلك، وكان يشعر بسعادة بالغة جدا عندما فعل ذلك، وعندما كان يزورها، وكانت الوحيدة التى يزورها باستمرار، وأتذكر أنه استعد ذات مرة لزيارتها فى مدينة رأس البر، لكن السفرية ألغيت، لأسباب لا أعرفها، ما جعله حزينا جدا.
■ قلت ذات مرة إن كتب جمال حمدان كانت سبب مقتله.. فلماذا تؤكد أنه قتل؟
- «حمدان» كان لديه مشروع كبير يتعلق بعبقرية المكان، يقوم على علم يسمى «الجغرافيا السياسية»، وهو الذى توصل إلى تعبير «عبقرية المكان»، وعرفنا عليه فى كتاباته، وقبل حادث حريق منزله، كنت أعرف أنه يعمل على كتاب عن الإسرائيليين، يعيد فيه صياغة أحد كتبه القديمة، لكونه يرى فى إسرائيل مشروعا توسعيا يهدد الأمة العربية بأكملها.
بعد الحادث، أبلغنى أخوه «عبدالعظيم» بأنه لم يجد أى شىء يدل على وجود هذا الكتاب، كما كان يعد كتابا عن «السادات»، وكتابا يحمل اسم «العالم الإسلامى المعاصر»، يتحدث فيه عن ظهور الإسلام السياسى، الذى كان يعتبره أمرا بالغ الخطورة، ويراه مرتبطا بظهور البترول، وكل هذه المشروعات كانت ضمن خطط عمله بعد انتهائه من مجلدات «شخصية مصر».
■ هل هذا ما جعلك تؤكد أنه مات مقتولا؟
- أنا أعتقد هذا، لأنه لم يكن يعانى من أى أمراض، ولأن هذه الكتب كلها لم توجد بعد وفاته، بشهادة إخوته الدكتور «عبدالحميد»، والحاجة «فوزية»، واللواء «عبدالعظيم»، رغم أنى كنت أعلم جيدا أنه يعمل عليها، وربما أكون على خطأ، لكن عداءه لإسرائيل كان واضحا، حتى إننى أجريت معه حوارا صحفيا ذات يوم، نشرته فى مجلة «روز اليوسف» أيام صلاح حافظ، وكان عنوانه: «أعدى أعداء إسرائيل يتكلم لأول مرة».
■ كيف تناولت كصحفى خبر وفاته؟
- وقت الوفاة، كنت أعمل مدير تحرير فى مجلة «المصور»، وكان معنا محرر جديد اسمه حلمى النمنم، توجه إثر الحادث إلى مستشفى مصر القديمة، حيث كان جثمان جمال حمدان، وكتب «ريبورتاج» عن وفاته، نشرناه فى المجلة.
■ هل كان لدى «النمنم» أى أدلة تؤكد مقتله؟
- لا، فهو التزم بما قاله المستشفى، ولم يكن الحديث حول قتله متداولا، لأنه ظهر فيما بعد، بعد دراسة ملابسات الحريق، وظروفه، وطريقة حياته وما إلى ذلك.
■ ما الذى أثار شكوكك إذن؟
- الحادثة كانت غريبة، فقد قالوا إن الحريق نشب نتيجة تسخين الطعام، ووفقا لمعلوماتى عنه، كانت تأتيه إحدى الخادمات مرة واحدة كل شهر، تعد له فيها طعام شهر كامل، وتضعه فى الثلاجة، وكان لديه بوتاجاز صغير من النوع المسطح، لكنه لم يكن يستعمله كثيرا، لأنه كان يحب أكل الطعام باردًا، وفقا لما تعود عليه فى سنوات سفره إلى لندن.
وبالتالى فإن فكرة أن الحريق نشب بسبب تسخين الطعام مستبعدة بالنسبة لى، فحتى عندما كنت أزوره بين وقت وآخر، كان يرسل البواب ليطلب لنا عصير القصب من المحل بجوار منزله، لكنه أبدا لم يحضر أى مشروب ساخن لنا، مثل القهوة أو الشاى أو غير ذلك، وفى رأيى أن الحريق كان للتغطية على حادث القتل، ووفاته لم تنتج عن الحريق.
■ هل كان المقربون منه مقتنعين بهذا الرأى؟
- لا، أعتقد أنهم لو كانوا يملكون شكا فى أسباب وفاته، لطلبوا تشريح الجثمان، ولم يطلبوا دفنه مباشرة، لكن ربما يرجع الأمر إلى كون التشريح أمرا غير مستحب لدينا نحن المسلمين، لأننا نؤمن بفكرة أن إكرام الميت فى دفنه، وقد يكون هذا هو السبب، أو أى أسباب أخرى، لذا فالأمر كله خاضع للتقديرات، فلم يكن لدى أى منا دليل قاطع على مقتله.
■ كيف كان عزاء الكاتب الراحل؟
- كان بائسا للغاية، واندهشت جدا عند حضوره، لأنى كنت أتوقع أن مصر كلها ستكون هناك، لكنى فوجئت بعدد قليل جدا من الحضور، أذكر منهم ٣ أو ٤ شخصيات معروفة، منهم «الأستاذ هيكل»، وربما ترجع قلة الحضور إلى كون العزاء صادف يوم «شم النسيم»، وربما تأثر بسبب عدم كونه اجتماعيا، ويميل إلى اعتزال الناس.
■ كيف استقبل القراء كتاباته وخبر وفاته؟
- كتاباته لم تحدث ضجة فى حياته مثلما فعلت بعد ذلك، وحتى عمله الأضخم «شخصية مصر» كتبه ٣ مرات، مرة فى كتاب صغير، ثم فى كتاب متوسط، ثم فى الأربع مجلدات الكبيرة، لكنها لم تحظ بالشهرة الجماهيرية فى ذلك الوقت.
■ هل كان لـ«حمدان» علاقة بالرؤساء ناصر والسادات ومبارك؟
- لا أعتقد، ففى لحظة وفاة «ناصر»، كان رافضا الحزن، أما «السادات» فكان «رامى طوبته» بعد ذهابه إلى الكيان الصهيونى، وأعتقد أن الأمر استمر فى عهد «مبارك».
■ هل هذا هو سبب رفضه الحصول على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم؟
- هو رفض استلامها، لأن كل شىء تغير بعد ذهاب «السادات» إلى الكيان الصهيونى، فالصلح مع العدو الإسرائيلى كان نقطة فاصلة فى تطوره، وأثر عليه حتى وفاته، لأن موقفه ضده كان صلبا ولا يقبل النقاش، ويرفض التعامل مع من وافقوا على ذلك.
وقبل «كامب ديفيد» كان يأتى أحيانا لزيارتى فى «دار الهلال»، لكن بعد تأييد المؤسسات الصحفية معاهدة السلام أصبح يرفض الدخول، حتى إنه ترك لى مجلدات «شخصية مصر» مع الأمن، رافضا وضع قدمه فى أرض المؤسسة، رفضا لأى تأييد للاتفاقية، مع من ظل يطلق عليه دائما لقب العدو.
■ لماذا لم يفكر الكاتب الكبير فى الرحيل عن مصر كما فعل غيره بعد «كامب ديفيد»؟
- لأنه كان وطنيا بشدة، ويرى أن ما يكتبه هو لمصر فقط، وأذكر أننى ذهبت ذات مرة للقائه بصحبة الكاتب والسياسى السورى صفوان قدسى، وكان يحمل له دعوة إلى زيارة دمشق، موجهة من الرئيس حافظ الأسد، وكان يطلب منه تأليف كتاب بعنوان «شخصية سوريا»، على غرار «شخصية مصر»، لكنه رفض ذلك تمامًا، كما رفض نفس المحاولة من العراق، وكان يرى أن ما يكتبه لمصر لا يمكن أن يكتبه لأى بلد آخر، ويتعلل بأن تكرار أعماله ينتقص منها، ولا يزيدها.
■ هل نال «حمدان» ما يستحقه من التقدير فى حياته؟
- إطلاقًا، فهو لم يكن يحظى بالتقدير الكافى، ولا الشهرة، وأذكر أننى رأيته مرة بالصدفة، وهو يقف فى شارع التحرير، منتظرا الأتوبيس، وكان يحمل فى يده أوراقه، دون أن يلحظه أحد، أو يتعرف عليه.
■ كيف يمكن لمصر أن تحتفى به بعد مرور هذه السنوات الطويلة على رحيله؟
- على الأقل يجب أن يكون هناك مدرج فى كلية الآداب يحمل اسمه، وأن يطلقوا اسمه على أحد الشوارع الهامة، أو على مدارس قريته التى تعلم فيها، كما يجب أن تعيد «دار الهلال» نشر أعماله، وعلى رأسها «شخصية مصر».