رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافي يكتب: أم محمد صلاح


لم تكن أمى تعرف شيئًا عن دراستى، فقط تخربش ظهرى بأظافرها لتعرف إن كنت قد نزلت الترعة أم لا، فالجلد المغسول يختلف عن الناشف، وإن ظهرت خطوط الأظافر بيضاء فإن العقاب يكون بالقرص فى الفخذ والشد من الأذن، «البلهارسا هتاكل بدنك» وتشد أكثر: «عايز تغرق وتحرق قلبى»، ولم أكن أجيد السباحة، وكلما أغرانى العيال بنزول الترعة والبلبطة وضرب بعضنا بالطين واستعراض خفة الدم أمام البنات اللائى يغسلن المواعين والهدوم على الشط.

تذكرت القرص، فيؤلمنى مكان أصابعها وهى تفرم قطعة من لحم فخذى، وأجدنى هاربًا من المجهول وحكايات الغرق التى كانت تتكرر كل يوم فى قريتنا إلى حضنها الأكثر أمنًا وسكينة، حتى كبرت وأنا أجهل سرقة المتعة وأحب البيت أكثر من إغراءات البلهارسيا، وخسرت مصر سباحًا كبيرًا بالطبع، وكلما تأملنا مصائرنا وما كانت ستؤول إليه لولا وجود «قلب»، كنا نخاف عليه أن يحترق لتبدل حال عن حال، ولو كنت مكان السيدة مايا مرسى، رئيس المركز القومى للمرأة، أو مكان كل السيدات المنشغلات بمستقبل المرأة فى مصر، لذهبت إلى نجريج مركز بسيون بمحافظة الغربية وجلست بالساعات إلى السيدة «إكرام» والدة اللاعب محمد صلاح، ليس لسؤالها كيف علّمت ابنها ركل الكرة، وكيف كانت تصطحبه إلى النادى ليلعب، بينما هى تستمتع بالتطريز؟ فهذا سخف وهطل بالطبع، ولكن لأسألها عن خوفها الغريزى على طفلها الذى أصبح أسطورة، كيف كانت تعصر الليمون فى حلقه كلما التهبت لوزتاه؟، كيف نجحت دون تعليم فى تهيئة هذه الروح؟، كيف لقنته الرضا والعفة والتواضع؟، سأتركها تحكى بعفويتها عن الليالى الصعبة التى قضتها تفكر فى تدبير مصاريف السفر للقاهرة، بحثًا عن نادٍ يقبله كلاعب فقير قادم من الريف بلا سند ولا واسطة، وكيف انكسر قلبها مرات وهى تحتضنه كلما عاد إلى البيت يجر الحزن والفشل؟، فأنا لا أعرف لماذا أرى وجه السيدة إكرام كلما أطلت ضحكة ولدها الطيب محمد صلاح على الشاشات ولافتات الإعلانات الضخمة!، شىء إلهى يربط بين البذرة وفرعها، ربما، فالأم تحرس بذرة قد لا تعرف نوعها ولم تسمع عنها، ويعجز خيالها عن استيعاب ما ستصبح عليه، لكنها تُرضعها روحها قبل لبنها، خوفها عليها قبل انتظار اكتمال نموها، هل يتغذى الفرع من الأصل؟، وهل تدب الحياة فى قدم محمد صلاح فيعدو كالرهوان وسط الأجانب كلما تذكر ملامح أمه الطيبة التى لم تكن تعرف شيئًا عن عالم كرة القدم ولا عن بلاد الإنجليز وليفربول؟، كيف أصبح الشهيد المنسى أسطورة التضحية من أجل الوطن مثلًا؟، كيف استوى جسد باقى الرفقاء من أبطالنا فى سيناء ليصنعوا تلك الملاحم القتالية؟، وكيف احتملت قلوب أمهاتهم الفراق ولم يسقطن صريعات اللوعة والحسرة؟!، من أين جئن بالصلابة والقوة وهن يودعن شهداءهن، فى حين تنهار أمهات أخريات لمجرد خدش بسيط أو إصابة عابرة فى جسد أولاد ضعفاء وتافهين؟!

هل يتغذى الأصل من الفرع أيضًا؟، الفلاسفة والزنادقة والأدباء والمتسولون كانت بدايتهم جميعًا فى كف أم أمسكت بقطعة اللحم الصغيرة ونفخت فيها من روحها التى هى روح الله، فالأمهات وإن كن أميات لا يقرأن ولا يكتبن إلا أن الله خصهن بالسر الأعظم، أودعهن وحدهن كلمته، يستقبلن البذرة فى الأحشاء وتنمو وقد تغذت على لبن روحهن، بينما نمضى نحن إلى حياتنا ننتظر لحظة الاستواء والولادة، وكانت والدة نجيب محفوظ لا تقرأ، لكنها كانت تحرس أحلامًا لا تعرف عنها شيئًا داخل قلب ابنها، وكلما أخذته معها إلى أسواق حى الجمالية يكبر حلم، وكلما أمسكت يده الصغيرة وهى تتضرع إلى سيدنا الحسين وتُشعل شمعة فى دير مار جرجس يكبر آخر، حتى امتلك حديقة من الأحلام، وجعل محمود درويش قصيدته «أحن إلى خبز أمى» نشيد المغتربين والمشردين فى البلاد، وكل الياسمين والعطر الذى يفوح من قصائد نزار قبانى ويخطف قلوب العذارى، زرعته أمه فى قلبه صغيرًا، كان بيتنا قارورة عطر، يقول نزار زرعتْ أمى عشرين شجرة فُل فى صحن دارنا، وكان اصطدامى بالجمال قدرًا يوميًا، وكلما سقطتُ على الأرض أسقط فى حضن وردة، وهكذا استحوذ البيت الدمشقى على مشاعر الفتى الصغير، ففقد شهية المقاهى واللعب فى الحارات والأزقة وجلس يكتب للورد، حتى الأمهات اللائى لا يمتلكن سوى حودايت الخوف لأولادهن فى الصعيد يزرعن الخيال أيضًا، فقد عاش الكاتب الساخر العظيم محمد مستجاب يحكى عن أبورجل مسلوخة كبطل من خيال أمه كانت تستحضره لقمع نزواته الطفولية المجنونة، فينام الليل مترقبًا مجىء هذا الرجل، وعندما لم يأت، ذهب هو إليه وتعرف عليه فأخذه إلى عالم الجن والحيوانات وأسرارها، وأصبحا رفيقين فى رحلة الخيال والكتابة، والبنات الصغيرات اللائى نراهن محشورات فى عربات المترو خائفات من مجهول يترصدهن فى العيون المبحلقة، هن وقودنا لحياة أجمل وألف صلاح ونزار ودرويش ومستجاب ونجيب محفوظ.. لو كنا نعلم.