رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوعى القانونى والنظام


النظام قانون سماوى، إذ كل شىء منتظم فى الكون، وكل حركة تجرى بنظام، سواء فى باطن الأرض أو فى الفضاء البعيد، وعلى المستوى البشرى، فإن الشعوب قد سعت عبر تاريخها لوضع تعاليم وقوانين تنظم الحياة وعلاقات البشر، وكانت الأمة العربية من الأمم السابقة فى وضع أطر حاكمة وقوانين لمفهوم الدولة بالمعنى المعاصر، تناسبت مع زمانها ومكانها وتوجهاتها، واستطاعت بالفعل الهيمنة على امتداد شاسع من الشرق الآسيوى إلى الغرب الإفريقى، ثم تجاوزت البحر المتوسط شمالًا، وكان أهم مرتكزاتها فى ذلك، هو العقيدة والسياسة التى اعتمدت الشرع منطلقًا لها.
كان الالتزام بهذه الأسس هو القانون الذى لا يحيد عنه أحد، وإن حدث يتم تطبيق الحدود عليه، وساعد على ذلك تضامن المجتمع الذى وجد فى الدين ونظامه تعزيزًا لقيمه الأصيلة من تكافل اجتماعى، لتواصل ومودة، لمعاملة بالحسنى، وهكذا.
لكن جاءت عصور الظلام مع الهيمنة العثمانية، وما تلاها عبر قرون طويلة، فحلت قوانين الدولة الحاكمة فى الأستانة «الباب العالى»، محل القوانين والنظم العربية، ثم جاء الاستعمار بقوانين وضعية ومدونات تشريعية فرضها على البلاد التى احتلها، ووجد فيها العرب، خروجًا من أزمة سنوات الضعف والانهيار، إضافة إلى بداية ازدواجية النظم التعليمية بين التعليم الدينى والتعليم المدنى، والذى بدأ فيه التعليم الدينى منافسًا قويًا وقادرًا على استيعاب علوم العصر التجريبية آنذاك، غير أنه شيئًا فشيئًا انغلق على ذاته، وتوقف عن القدرة على التحديث، وبالتالى تأخرت نواتجه التعليمية عن مواكبة العصر.
وبعد انتهاء حركات التحرر العربى من هذا الاستعمار، وجدت الشعوب العربية نفسها منفصلة فى دويلات ودول وممالك، لكن كانت الأزمة قد تأسست وترسخت، أزمة القوانين والنظم المستمدة من الأديان، فى مقابل القوانين المستمدة من المدونات التشريعية الوضعية التى استقرت فى الغرب، ولم ترحل من البلاد العربية برحيل الاستعمار، وكلا الأمرين «القانون الدينى والقانون الوضعى»، كانت تتم ممارسته داخل الدولة الواحدة من الشعوب العربية، وليس أدل على ذلك من قوانين الأحوال الشخصية التى تمزج بين النوعين.
وهنا تنوعت مشارب العرب، ففضل البعض العودة لنظام الشرع المُنزل من السماء، وفضل البعض الانحياز للقانون الوضعى الغربى، وحاول البعض التوفيق بين النظامين، فاعتمد مثلًا قوانين العقوبات والمعاملات والجنايات من الغرب، فى حين حافظ على قوانين الميراث من الشرع والدين، وهنا بدأت فوارق المجتمع العربى الثقافية فى الاتساع، فالنظام الدينى البحت ينتج ثقافة مجتمعية، تختلف عن ثقافة المجتمع المستمدة ثقافته من القوانين الوضعية، وهكذا.
لم تكن هناك محاولات مثلًا لتطوير النظم الدينية، بما يتناسب ومستجدات الواقع العالمى وتغير مفهوم الدولة وتعدد مساراتها وتشابك علاقاتها، وباب القياس كان ولا يزال مفتوحًا ومشروعًا، لكنه لم يحدث، ومن ثم تعقدت الأمور على العقل العربى فى عمومه، وتراجع الوعى القانونى، والوعى بأحكام الشريعة (الأحكام العقدية، والأحكام العملية، والأحكام الأخلاقية)، وهيمنت الأعراف والتقاليد مرة أخرى، وعاش المواطن نمطين من أنماط الحياة فى علاقته بالنظم والقوانين:
ـ نمط الالتزام بأحكام المجتمع من حوله، ومراعاته لها والتزامه أو عدم التزامه بها «الاحتكام إلى العرف الاجتماعى».
ـ ونمط الالتزام بأحكام الدولة الرسمية التابع لها، فيما يمكن أن تقتضيه مصالحه معها «استخراج وثائق رسمية، نزاعات، محاكم، قضايا.. إلخ».
عاش المواطن العربى ويعيش هذين النمطين فى الآن ذاته، وعليه التوفيق بينهما ومعرفة متى يلجأ لهذا ومتى يلجأ لذاك، وبالتالى نشأت بداخله روح متمردة على كليهما، وصار يمارس التزامه بهما حين تقتضى الضرورة أو يخشى العقاب، ويتحرر من ذلك كلما سنحت له الفرصة أو أمن العقوبة.
وحتى الآن لم تناقش العقلية العربية هذه القضية سوى من منظور محاولة الانتصار لأحدهما على الآخر، فالبعض يرى القوانين الوضعية غير صالحة للحياة، بدليل أنها تحتاج بين الحين والآخر لتحديثها فى مقابل القوانين الشرعية الثابتة والمستقرة،
والبعض يرى هذا الثبات ذاته خطأ، لأن الحياة متغيرة من حولنا، وتقتضى التحديث على الدوام، وبخاصة فى مجال العلاقات والمعاملات الإنسانية.
والواقع أن المشكلة الكبرى ليست فى وجود المدونة التشريعية المستمدة من الدين أو المستمدة من القانون الوضعى، أو التى استطاعت التوفيق بين كليهما، وإن كان ذلك مهمًا ويحتاج لدراسة متأنية تتناسب وطبيعة حياتنا المعاصرة، وإنما المشكلة الكبرى فى تطبيق هذه القوانين على أرض الواقع، والعمل على نشر ما يمكن تسميته الثقافة القانونية، بما يسمح للإنسان أن يتخلص من هذا التناقض الداخلى الذى يعيشه ولا يجد له مخرجًا، وبالتالى يخلخل هويته بوصفه عربيًا عليه أن يعتز بوجوده وكيانه، وهذا ليس مسئولية الأفراد، وإنما مسئولية الدول وحكوماتها، التى عليها أن تمتلك الوعى الكافى لمعرفة أبعاد مشكلاتها وواقع حاضر ومستقبل شعوبها، وإلا فإن تشويه الهوية سيستمر إلى ما لا نهاية.