رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

العودة إلى القوات المسلحة


صدر الأمر بعودتى إلى القوات المسلحة، ونقلى إلى خميس مشيط، كى آخذ حظى من العمل الميدانى بعد انقطاع، كان مدير الشئون العامة المقدم عقيل ضيف القويعى من الضباط المثقفين، وكان هذا الميدان يجمعنا معًا وكنا زملاء، ورغب أن أعمل مساعدًا له، وطلب نقلى إلى الشئون العامة، فجاءت الموافقة على إعارتى ستة أشهر، لكنها تمددت إلى تسعة أشهر، فالشئون العامة فى القوات المسلحة لها جناحان هما الإعلام والعلاقات العامة.
كان من ضمن المهام التى أوكلت لى أن أشرف على البرنامج الإذاعى «صوت القوات المسلحة»، فكنت أعد البرنامج وأقدمه، وأجرى اللقاءات، وهذا ما أكسبنى الخبرة اللازمة والتعرف على كثير من الإعلاميين، والعمل الإعلامى.
بعد تسعة أشهر، انتهت مهمتى، ونقلت إلى خميس مشيط، كانت ثقافتى الإدارية والعسكرية وخبرتى الرياضية، تستدعى القادة إلى أن أكون ضمن وحداتهم، فكانت فرصة للتغيير والتعرف على بيئات لم أعهدها من قبل، فى تلك المنطقة التى كانت تعتبر نائية.
وخميس مشيط، اليوم، تعتبر ثامن أكبر مدينة سعودية من حيث السكان، وترتفع عن سطح البحر بمقدار ١٨٥٠ مترًا، ولها أهمية سياحية وتجارية وعسكرية، وهى مدينة تاريخية قديمة كانت تعرف قديمًا بمنطقه جرش، ذكرها الهمدانى المؤرخ اليمنى الشهير فى كتابة «صفة جزيرة العرب»، وسميت بجرش فى عهد الملك نفيل بن حبيب الخثعمى، وهو الذى تصدى لأبرهة، لمنعه من الوصول إلى مكة، لكنه هزم أمامه فساقه معه حتى جاء الفيل ليدخل إلى مكة، فهمس نفيل فى أذن الفيل وقال للفيل إن هذا بيت الله فلا تتقدم، فبرك الفيل ولم يتقدم رغم المحاولات.
أرسل النبى صلى الله عليه وسلم فيما بعد إلى جرش، اثنين من الصحابة تعلما منهم صناعة الدبابات الخشبية التى اقتحم بها النبى صلى الله عليه وسلم حصون وأسوار الطائف، ثم تكرر اسم خميس أربع مرات، حتى استقر عليه الحال اليوم فأطلق عليها خميس مشيط.
دخلت فى حكم الملك عبدالعزيز، بمبادرة من بن مشيط سيد الخميس، وأطلق عليها اسم خميس مشيط إكرامًا له، وبها اليوم مدينة عسكرية، استطاعت أن تكون أساسًا للتنمية بكل صورها وأنواعها فى المنطقة، كما أن بها قاعدة جوية تسمى قاعدة الملك خالد، لقد بلغ سكان خميس اليوم نصف مليون نسمة.
عندما ذهبت إليها كانت مدينة متواضعة، لكن جمالها كان أخّاذًا، وجبالها خضراء، وأهلها كرامًا، أغلب سكانها من قبيلة شهران وقحطان، مناخها يميل إلى البرودة ويعتدل فى الصيف، لكن الأمطار تهطل عليها مجزأة حسب الغيوم المتناثرة.
شعرت مع أسرتى بالهدوء والسكينة فى هذا البلد الجميل بعد عناء طويل، فكانت ثلاث سنوات قضيناها من أمتع أيامنا، شكلنا فيها صداقات حميمة، وحصلت خلالها على دورة مشاة متقدمة، وتابعت دراستى فى القانون ببيروت العربية فرع الإسكندرية.
تتعدد الأحياء فى خميس مشيط اليوم، فبعد أن كانت سبعة أحياء أصبحت اليوم ٤٥ حيًا أهمها حى قمبر، وهو من أقدم الأحياء فيها، ويقع وسط المدينة قريبًا من وادى بيشة، وقرية ذهبان، وهى من أكبر الأحياء وأشهرها، وأكثر الأحياء ذكرًا فى الحديث النبوى حى شكر.
بها مواقع سياحية، تأتى السودة فى مقدمتها، فتشكل أعلى القمم، وأطلق عليها السودة، لشدة اخضرار جبالها، ثم يأتى بعد ذلك الصحن، وهو من المسطحات المرتفعة. شيد الملك سعود رحمه الله على حافة الجبل قصرًا تركه للسياح والمتنزهين، وأشهر المناطق الجبلية عبارة عن قرية يقطنها بنومليكة من قحطان، تكمن فى منطقة منخفضة بما يقارب من ألف قدم، كانوا لا يصلون إليها إلا بالحبال أو الأعواد المغروسة على حائط الجبل واليوم بها «تلفريك».
كانت إقامتنا بالمدينة العسكرية، التى تعتبر هى وأخواتها فى تبوك وحفر الباطن، من أكبر المدن العسكرية وأجملها فى العالم، تضم المدينة الوحدات العسكرية، وتجرى فيها التدريبات، وتلقى فيها الدروس العسكرية، تحميها بعد الله عزو جل، قاعدة جوية هى من أهم القواعد، فقد كنا نصبح ونمسى على أزيز الطائرات التى كانت تنطلق فى الأجواء للتدريب والحراسة.
فى الأيام الأخيرة التى قضيتها بخميس مشيط، كلفت من قبل إدارة المنطقة، يساعدنى فى ذلك بعض الضباط بإعداد القوات وإرسالها إلى سوريا للدفاع عنها فى مواجهة الهجوم الإسرائيلى عام ١٩٧٣م.
أبْلَت تلك القوات، بقيادة اللواء الركن محمد أحمد بديرة، بلاء حسنًا، وقد صمدت عندما هجمت إسرائيل على الجبهة السورية، فقامت القوات السعودية بالهجوم المضاد عليها، وأوقفت الاختراق الذى شكله الإسرائيليون على الجبهة السورية بمنطقة تل مرعى، وأجبرت القوات المهاجمة على الانسحاب، وفى حرب الاستنزاف كان للمدفعية السعودية دور مهم فى إسكات النيران الإسرائيلية.
لقد أعجبت إسرائيل بمهارة وقوة وتخطيط القوات السعودية، وذكروا ذلك فى تحليل كتب فى التقرير السنوى الذى يصدره مركز JaFEE للدراسات الاستراتيجية التابع لجامعة تل أبيب، لهذا نجد إسرائيل ترغب اليوم فى التنسيق مع المملكة العربية السعودية فى مواجهة النظام الإرهابى فى إيران، لكن المملكة ترفض ذلك.
نُقلت بعد ثلاث سنوات إلى تبوك، وكان ذلك يتطلب أن أبقى فى الرياض ستة أشهر عملت فيها بمركز البحوث والتطورات فى القوات المسلحة، وفى الرياض هيأت نفسى للانتقال إلى تبوك فى أقصى الشمال الغربى للمملكة.
كان العمل فى الوحدات العسكرية، له مذاق خاص، يتعامل فيه الضابط مع الجنود، ويتولون تدريبهم والاهتمام بهم، والتعرف على مشاكلهم وحلها، فالحياة فى الوحدات تتسم بالخشونة والصلابة والانضباط، فقد كنت أشعر بالسعادة وأنا أعمل مع الجنود الذين هم من خير جنود الأرض.