رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمود خليل يكتب: معاوية والخوارج.. «داهية العرب» فى مواجهة المتمردين

محمود خليل
محمود خليل

- السياسة الأموية تعتبر الاختلاف سنة كونية وطبيعة سرمدية فى دنيا البشر
- مع كل هزيمة لـ«الخوارج» كانوا يجمعون شتاتهم للتحفيز للهجمة المقبلة
- الخوارج بطبيعتهم يرتابون فى بعضهم البعض ولا يثقون فى بعضهم


لم يكن معاوية بالشخص السهل، فقد كان سياسيا محنكا، وواحدا من دهاة العرب. وكان له أسلوبه الخاص فى إدارة الصراع مع الخوارج، بعد أن أصبح فى مواجهتهم بمفرده، عقب استشهاد على بن أبى طالب، وتنازل «الحسن» له عن الحكم. كان السيف حاضرا فى مواجهات معاوية مع الخوارج، لكن السياسة كانت حاضرة أيضا، فقد كان يؤثر أن يضع السيف فى غمده حين تكفيه السياسة. ونستطيع فى المجمل القول بأنه قدم تجربة فريدة فى التعامل مع الخوارج.

لم يعتمد معاوية على مواجهة الخوارج فكريا، فلم يكن تكوينه يسمح بذلك، فقد كانوا أرسخ منه علما وفقها. ولم يلجأ فى أى لحظة إلى تغطية صراعه معهم بدثار دينى، بل كان دائما ما يردد حين يسأل عن أمره وأمر من ينابذه من الخوارج والشيعة أن الله تعالى سوف يحكم بين الجميع- يوم القيامة- فيما هم فيه يختلفون، وكان يرى أن الاختلاف فى الرأى والتوجه سنة من سنن الله فى خلقه.

لجأ معاوية إلى مواجهات من نوع فريد فى صراعه مع الخوارج، من بينها «أسلوب المواجهة الشعبية» و«أسلوب الضغط العائلى» و«أسلوب الضغط القبلى»، وكأنه أراد أن يضرب كل خارجى فى عصبه الشعبى أو العائلى أو القبلى حتى يصبح بلا ظهير، فإن تاب ورجع كان بها، وإن أصر على ما هو عليه عالجه بالسيف، وهى أساليب تشهد على حاكم غير عادى يعرف كيف يدير مواجهاته بأسلوب مبتكر.

الخليفة الأموى تعرض لمحاولة اغتيال على أيديهم فأحجم عن قتالهم.. وأجبر «شيعة الكوفة» على محاربة الخارجين عليه

نجا معاوية من القتل بأعجوبة على يد الخارجى الذى وُكّل بقتله. وكان ثلاثة من الخوارج قد توجهوا لقتل كل من على بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان وعمرو بن العاص. مات على، ونجا عمرو وقُتل مكانه خادمه «خارجة» الذى ظن القاتل أنه عمرو، وفر معاوية من الخارجى الذى ضربه ضربة عشوائية أصابته فى دبره، لكنها لم تقتله. كان من الوارد بعد محاولة الاغتيال التى تعرض لها أول خليفة أموى أن يحاول التنكيل بالخوارج، لكنه لم يفعل، إذ لم يكن من طبعه التحرك إلى ملاقاة عدو إلا إذا تحرك له، والسكوت عنه ما كف يده عن ملكه.
أحداث كثيرة تدفقت بعد الهزيمة المنكرة للخوارج فى موقعة «النهروان»، من بينها اغتيال على بن أبى طالب، ثم تنازل الحسن عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين. وبينما كانت هذه الأحداث تتفاعل كان الخوارج يلملمون شتاتهم بعد الهزيمة، وقاد المسيرة حينذاك «فروة بن نوفل الأشجعى». لم يشارك «الأشجعى» فى الحرب ضد على والحسن، وكان قد اعتزل مع ما يقرب من ٥٠٠ خارجى، ويبدو أن الشك فى وجاهة مسألة قتال على والحسن هى التى منعت «الأشجعى» وجماعته من مشاركة غيرهم من الخوارج فى موقعة «النهروان». والدليل على ذلك أن أتباع الرجل اجتمعوا معه بعد تنازل الحسن عن الخلافة وقالوا لبعضهم البعض: «قد جاء الآن ما لا شك فيه، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه».
هنالك تقدمت جماعة «الأشجعى» إلى الكوفة واعتصموا بها، وكان الحسن قد تركها وقصد مدينة رسول الله. واللافت أنه رغم الخصومة التى كانت بينه وبين الحسن، إلا أن «معاوية» لم يتردد فى طلب المساندة والعون منه، من منطلق أن وجود الحسن على رأس من يقاتلون الخوارج الذين يهددون عرش معاوية سوف يخلق ظهيرا شعبيا يساعد فى القضاء عليهم.

كتب معاوية إلى الحسن يدعوه إلى قتال «الأشجعى»، فرد عليه قائلا: «لو آثرت أن أقاتل أحدا من أهل القبلة لبدأت بقتالك، فإنى تركتك لصلاح الأمة وحقن دمائها». لم يفلح معاوية فى توظيف «الحسن» فى تطبيق أسلوب «المواجهة الشعبية» للخوارج، فلجأ إلى أهل الشام فأرسل إليهم جمعًا منهم، فقاتلوهم، فانهزم أهل الشام. وأمام ذلك تحرك معاوية مباشرة إلى أهل «الكوفة» المدينة التى اعتصم بها الخوارج، وجعلوها مركزا لمناوأة الحكم الأموى. أرسل معاوية إلى أهل الكوفة يقول لهم: «والله لا أمان لكم عندى حتى تكفوهم».
تعلم أن أغلب أهل الكوفة كانوا من شيعة على، وأن معاوية غلبهم على أمرهم فأعطوه بيعتهم، وانسحبوا من المشهد، لكن كان لمعاوية رأى آخر، فقد حمّلهم عبء مقاتلة الخوارج الذين وفدوا إلى مدينتهم، وهددهم تهديدا مباشرا بعدم الأمان إذا لم ينصاعوا لأمره وينفذوا طلبه، فما كان منهم إلا أن فعلوا. خرج أهل الكوفة لقتال الخوارج. فقال لهم الخوارج: أليس معاوية عدونا وعدوكم؟ دعونا حتى نقاتله، فإن أصبنا كنا قد كفيناكم عدوكم، وإن أصابنا كنتم قد كفيتمونا. فقالوا: لابد لنا من قتالكم. فأخذت أشجع صاحبهم فروة فحادثوه ووعظوه فلم يرجع، فأخذوه قهرا وأدخلوه الكوفة، فاستعمل الخوارج عليهم عبدالله بن أبى الحوساء، رجلًا من طىء، فقاتلهم أهل الكوفة فقتلوهم.

السياسة الأموية ارتكزت على إفساح المجال للرأى المخالف ما دام لا يحمل السيف ضد الدولة

انتهى أمر التمرد الذى قاده «الأشجعى» بالقبض عليه من جانب عائلته «أشجع» وقهروه على ترك ما هو عليه، والتوقف عن مواجهة معاوية، أما أتباعه فقد تكفل بهم الظهير الشعبى الراضخ لمعاوية فى الكوفة. حاول الخوارج تنظيم صفوفهم بعد اختفاء «الأشجعى» فأعطوا الراية لعبدالله بن أبى الحوساء ليقودهم، لكن أهل الكوفة تمكنوا من قتله، ليحل محله فى القيادة «حوثرة بن وداع الأسدى». بدأ «الأسدى» رحلة قيادة الخوارج بالتشكيك فى ولاء «الأشجعى» للفكرة التى يؤمن بها التنظيم وموقفهم «التكفيرى» لعلى بن أبى طالب، واتهمه بالخيانة منذ البداية لأنه لم يكفّر عليًا، وحاول جمع فلول الخوارج من كل اتجاه، فالتف حوله ١٥٠ خارجيا. هنا تدخل معاوية وبدأ فى تطبيق أسلوبه الأثير فى الضغط العائلى على «حوثرة الأسدى»، وهو الأسلوب الذى سبق أن طبقه مع «الأشجعى» ونجح فيه.
دعا معاوية والد حوثرة فقال له: اخرج إلى ابنك فلعله يرقّ إذا رآك. فخرج إليه وكلمه وناشده وقال: ألا أجيئك بابنك فلعلك إذا رأيته كرهت فراقه؟ فقال: أنا إلى طعنة من يد كافر برمح أتقلب فيه ساعة أشوق منى إلى ابنى. فرجع أبوه فأخبر معاوية بقوله، فسير معاوية إليهم عبدالله بن عوف الأحمر فى ألفين، وخرج أبوحوثرة فيمن خرج فدعا ابنه إلى البراز، فقال: يا أبه لك فى غيرى سعة. وقاتلهم ابن عوف وصبروا، وبارز حوثرة عبدالله بن عوف فطعنه ابن عوف فقتله وقتل أصحابه إلا خمسين رجلًا دخلوا الكوفة، وذلك فى جمادى الآخرة سنة إحدى وأربعين.

ورأى ابن عوف بوجه حوثرة أثر السجود، وكان صاحب عبادة، فندم على قتله، وقال: «قتلت مصليًا محياء ليلٍ.. طويل الحزن ذا برٍ وقصد.. قتلت أخا تقًى لأنال دنيا.. وذاك لشقوتى وعثار جدى».
لم يفلح الأب فى إقناع ولده «حوثرة» فى العودة عن الطريق الذى سار فيه، استخدم معه حيلة «الترقيق» بأن ذكّره بولده الذى يكره فراقه، لكن «حوثرة» أبى، وذكر له أنه يشتاق إلى الموت أكثر مما يشتاق إلى رؤية ابنه. فما كان من معاوية إلا أن أرسل له من يقاتله. فى المعركة برز الأب أمام ابنه وأراد أن يبارزه مبارزة حرة كى يبرهن على ولائه للخليفة، لكن الابن الخارجى أبى، وظل يقاتل حتى قُتل. ومن المفارقات العجيبة التى تظهر فى هذا المشهد موقف قائد جيش معاوية «عبدالله بن عوف» من «حوثرة» بعد أن قتله. فقد ندم «ابن عوف» ندما شديدا بعد أن أعمل فيه السيف لما رأى أثر العبادة والسجود على وجهه. وسأل نفسه كيف يقتل رجلا مصليا يحيى الليل؟. وحقيقة الأمر أن «ابن عوف» يقدم لنا نموذجا للانخداع بالظاهر. فمن يصلى ويصوم ويقوم الليل لا يترخص فى قتل النفس التى حرم الله إلا بالحق، وهو دائما ما يؤثر الدعوة إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة. النوايا والسرائر يعلمها الله وحده، لكن العاقل لا ينخدع بالظاهر، خصوصا إذا كان رجل أمن وظيفته تطبيق قوانين الدولة وحماية استقرارها، وغل يد من يحملون السيوف عن العبث بأرواح الناس. وكل يبعث يوم القيامة على نيته.

ظهرت مدينة الكوفة- من جديد- على مسرح الأحداث فى المواجهة بين معاوية والخوارج، حيث مثلت نقطة انطلاق جيدة لمناهضة حكم معاوية فى الشام. هذه المرة كان التمرد الخارجى تحت راية «حيان بن ظبيان السلمى». كان «حيان» واحدا من مصابى معركة «النهروان» التى انتهت بانتصار على بن أبى طالب على الخوارج، فظل يعالج حتى شُفى من جرحه، وانحاز إليه بضعة عشر من الخوارج بمنطقة «الرى» فأقاموا بها حتى علموا بمقتل على، رضى الله عنه، ففرحوا بذلك أيما فرح، وهتف أحدهم (وهو سالم بن ربيعة العبسى): «لا شلت يمين علت قذاله بالسيف!». والعجيب أن «سالمًا» صاحب هذه العبارة رجع عن فكر الخوارج وانسلخ منهم فيما بعد. توجه «حيان» مع مجموعته الصغيرة إلى الكوفة فأقاموا بها حتى قدمها معاوية.

استعمل «معاوية» على الكوفة المغيرة بن شعبة، وكان تلميذا نجيبا للخليفة الأموى الشهير، فأحب العافية وأحسن السيرة، وكان يؤتى فيقال له: إن فلانًا يرى رأى الشيعة، وفلانًا يرى رأى الخوارج، فيقول: قضى الله ألا يزالوا مختلفين وسيحكم الله بين عباده. فأمنه الناس. إنها السياسة الأموية الرشيدة التى لا ترى غضاضة فى إفساح المجال للرأى المخالف، ما دام يأخذ صاحبه نهج التعبير عن الرأى ولا يحمل السيف فى مواجهة الدولة، وتعتبر أن الاختلاف سنة كونية وطبيعة سرمدية فى دنيا البشر.

ومثلما جرت عادة الخوارج أخذوا يجمعون شتاتهم ويتنادون فيما بينهم للتجمع فى مدينة الكوفة للتحضير للهجمة المقبلة على الأمويين. فلما اكتمل الجمع التقوا على ثلاثة نفر: على المستورد بن علفة التيمى من تيم الرباب، وعلى معاذ بن جوين الطائى وهو ابن عم زيد بن حصين الذى قتل يوم النهر، وعلى حيان بن ظبيان السلمى، واجتمعوا فى أربعمائة فتشاوروا فيمن يولون عليهم، فكلهم دفع الإمارة عن نفسه، ثم اتفقوا فولوا المستورد وبايعوه، وذلك فى جمادى الآخرة، واتعدوا للخروج واستعدوا، وكان خروجهم غرة شعبان سنة ثلاث وأربعين. ولما علم المغيرة بأمرهم واجتماعهم بدار «حيان» أرسل صاحب شرطته، وهو قبيصة بن الدمون، فأحاط بدار حيان هو ومن معه، وإذا عنده معاذ بن جوين ونحو عشرين رجلًا، ثارت امرأته، وهى أم ولد كانت له كارهة، فأخذت سيوفهم فألقتها تحت الفراش، وقاموا ليأخذوا سيوفهم فلم يجدوها فاستسلموا، فانطلق بهم إلى المغيرة فحبسهم بعد أن قررهم فلم يعترفوا بشىء، وذكروا أنهم اجتمعوا لقراءة القرآن، ولم يزالوا فى السجن نحو سنة، وسمع إخوانهم فحذروا.

إنها من جديد لعبة الضغط العائلى، فقد تحركت امرأة «حيان» وأخفت سيوف الخوارج ولم تمكنهم من حملها فى وجه شرطة بنى أمية، فاستطاعت القبض عليهم، ليودعوا جميعًا فى السجن، وكان أغلبهم من قيادات التنظيم، الأمر الذى أخاف القواعد التى تنتشر هنا وهناك فأخذوا حذرهم وأحجموا عن التحرك.

المغيرة بن شعبة وظَّف أداة الضغط القبلى ضدهم وأصدر أوامره إلى رؤساء القبائل: «ليكفنى كل رجل منكم قومه»

لم يكن المستورد بن علفة، قائد التنظيم، من بين المقبوض عليهم عندما داهمت الشرطة الأموية منزل «حيان»، وعندما علم بما وقع خرج إلى الحيرة، واختلف الخوارج إليه، فرآهم حجار بن أبجر، فسألوه أن يكتم عليهم ليلتهم تلك، فقال لهم: سأكتم عليكم الدهر، فخافوه أن يذكر حالهم للمغيرة، فتحولوا إلى دار سليم بن محدوج العبدى، وكان صهرًا للمستورد، ولم يذكر حجار من أخبارهم شيئا.

بلغ المغيرة خبرهم وأنهم عازمون على الخروج تلك الأيام، فقام فى الناس فحمد الله ثم قال: لقد علمتم أنى لم أزل أحب لجماعتكم العافية وأكف عنكم الأذى، وخشيت أن يكون ذلك أدب سوء لسفهائكم، وقد خشيت ألا نجد بدًا من أن يؤخذ الحليم التقى بذنب الجاهل السفيه، فكفوا عنها سفهاءكم قبل أن يشمل البلاء عوامكم، وقد بلغنا أن رجالًا يريدون أن يظهروا فى المصر بالشقاق والنفاق والخلاف، وايم الله لا يخرجون فى حى من أحياء العرب إلا أهلكتهم وجعلتهم نكالًا لمن بعدهم!.

الخوارج بطبيعتهم يرتابون فى بعضهم البعض، لم يثقوا فى «حجار» رغم تأكيده لهم بكتمان سرهم وعدم الوشاية بهم لدى شرطة المغيرة، لكنهم ارتابوا فى أمره فتحولوا إلى دار سليم بن محدوج، ويبدو أن الأخير وشى بهم، لأن المغيرة تحرك سريعًا نحوهم وجمع الناس وطلب منهم التصرف لحل المشكلة فى الإطار القبلى حتى لا يتسع الأمر وتنشب مواجهة دامية يروح فيها أبرياء بسبب مجموعة من السفهاء المناهضين للدولة. بعد أن ألقى المغير بكلمته قام إليه معقل بن قيس الرياحى، فقال: أيها الأمير أعلمنا بهؤلاء القوم، فإن كانوا منا كفيناكهم، وإن كانوا غيرنا أمرت أهل الطاعة فأتتك كل قبيلة بسفهائهم. فقال: ما سمى لى أحد باسمه. فقال معقل: أنا أكفيك قومى فليكفك كل رئيس قومه. فأحضر المغيرة الرؤساء وقال لهم: ليكفنى كل رجل منكم قومه وإلا فوالله لأتحولن عما تعرفون إلى ما تنكرون، وعما تحبون إلى ما تكرهون.

ها هى أداة «الضغط القبلى» تعمل من أجل إرجاع الخوارج عن طريق الفتنة، حماية للقبائل نفسها. أصدر المغيرة أوامره إلى رءوس القبائل ليتولى كل منهم منع من خرجوا على الدولة من أبناء القبيلة. رجع كل رئيس إلى قومه فناشدهم الله والإسلام أن يدلوهم على كل من يريد أن يهيج الفتنة، وجاء صعصعة بن صوحان إلى عبدالقيس، وقال لهم: «لا قوم أعدى لله ولكم ولأهل بيت نبيكم من هذه المارقة الخاطئة الذين فارقوا إمامنا واستحلوا دماءنا وشهدوا علينا بالكفر، فإياكم أن تؤوهم فى دوركم أو تكتموا عليهم شيئا، فإنه لا ينبغى لحى من أحياء العرب أن يكون أعدى لهذه المارقة منكم، وقد ذكر لى أن بعضهم فى جانب من الحى، وأنا باحث عن ذلك، فإن يك حقًا تقربت إلى الله بدمائهم، فإن دماءهم حلال! وقال: يا معشر عبدالقيس إن ولاتنا هؤلاء أعرف شىء بكم وبرأيكم، فلا تجعلوا لهم عليكم سبيلا، فإنهم أسرع شىء إليكم وإلى مثلكم».

كان كلام «صعصعة» واضحا لا يحتمل التأويل. فالخوارج مارقون على القبيلة قبل أن يكونوا مارقين على الدولة، لأنهم يكفّرون الجميع ويستحلون دم الكل. الرسالة كانت واضحة وجاء رد قومه من «عبدالقيس» واضحا، حيث ردوا عليه قائلين: «لعنهم الله وبرئ منهم، لا نؤويهم، ولئن علمنا بمكانهم لنطلعنك عليهم». الوحيد الذى سكت فى هذا الموقف هو سليم بن محدوج صهر «المستورد» والذى آواه وجماعته فى داره. رجع «ابن محدوج» كئيبًا يكره أن يخرج أصحابه من داره فيلوموه، ويكره أن يؤخذوا فى داره فيهلكوا ويهلك معهم. وجاء أصحاب المستورد إليه فأعلموه بما قام به المغيرة فى الناس وبما قام به رءوسهم فيهم. فسأل ابن محدوج عما قام به صعصعة فى عبدالقيس فأخبره، وقال: كرهت أن أعلمكم فتظنوا أنه ثقل علىّ مكانكم. فقال له: قد أكرمت المثوى وأحسنت، ونحن مرتحلون عنك.
أصدر المستورد أوامره إلى أصحابه بالخروج من هذه القبيلة، والتوجه إلى منطقة «سوراء». فخرجوا إليها متقطعين، فاجتمعوا بها ثلاثمائة رجل وساروا إلى الصراة، فسمع المغيرة بن شعبة خبرهم فدعا رؤساء الناس فاستشارهم فيمن يرسله إليهم، فقال له عدى بن حاتم: كلنا لهم عدو ولرأيهم مبغضٍ وبطاعتك مستمسك، فأينا شئت سار إليهم. وقال له معقل بن قيس: إنك لا تبعث إليهم أحدا ممن ترى حولك إلا رأيته سامعا مطيعا ولهم مفارقا ولهلاكهم محبا، ولا أرى أن تبعث إليهم أحدا من الناس أعدى لهم منى، فابعثنى إليهم، فأنا أكفيكهم بإذن الله تعالى. فقال: اخرج على اسم الله! فجهز معه ثلاثة آلاف. خرج معقل فى مطاردة الخوارج، فأخذوا يفرون منه من مكان إلى مكان ومن مدينة إلى مدينة رغبة منهم فى إنهاك جيشه، ودارت معركة شرسة تعددت جولاتها ما بين الطرفين، انتهت بمواجهة مباشرة بين «المستورد» قائد الخوارج و«معقل» قائد الجيش الأموى. فقد نادى المستورد معقلًا ليبرز إليه، ففعل، فمنعه أصحابه، فلم يقبل منهم، وكان معه سيفه ومع المستورد رمحه، فقال أصحاب معقل: خذ رمحك. فأبى وأقبل على المستورد، فطعنه المستورد برمحه فخرج السنان من ظهره، وتقدم معقل والرمح فيه إلى المستورد فضربه بالسيف فخالط دماغه فوقع المستورد ميتا ومات معقل أيضا.