رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

في الجوائز.. كل شيء جائز!


فعلًا، كل شيء جائز. ولا شيء بعيد أو مُستبعد بعد حصول النعجة اليمنية توكل كرمان على «نوبل»، وحصول فتاة لا أتذكر اسمها على جائزة «سخاروف». وكذا، بعد ظهور جوائز أخرى كثيرة، لا ينالها إلا مجهولون، تكاد تعتقد من ارتفاع قيمتها المادية أنها مكافأة نهاية أو بداية خدمة. وتكفي الإشارة إلى أن جائزة «الدفاع عن الكرامة الإنسانية» التي تمنحها مؤسسة ألمانية اسمها «رولاند بيرجر»، وحصل عليها المدعو جمال عيد سنة ٢٠١١، قيمتها مليون يورو!.

تعرف طبعًا قصة إنشاء جائزة نوبل. اخترع ألفريد نوبل «الديناميت»، وحقق من ورائه ثروة طائلة. وحين مات شقيقه «لودفيج»، التبس الأمر على جريدة فرنسية فنشرت خبر وفاة ألفرد تحت عنوان «تاجر الموت ميت». وعليه أراد أن يذكره بالخير بعد موته فأوصى بتخصيص ٩٤٪ من ثروته لإنشاء جائزة باسمه، غير أن جورج برنارد شو، أحد أشهر الكتاب المسرحيين، والساخرين، في العالم، غفر لألفريد نوبل اختراعه للديناميت، ولم يغفر له اختراعه لتلك الجائزة. ومعروف أن «برنارد شو» رفض تلك الجائزة ووصفها بأنها طوق نجاة يُلقى به إلى رجل وصل فعلًا إلى بر الأمان.

للساخر العظيم، كل الحق. إذ لا أعتقد أن واحدًا بين قرائي الأعزاء، سيعرف أسماء إيفو أندريتش، أوجينيو مونتالي، سان جون بيرس، وغيرهم كثيرون حصلوا على نوبل في الآداب التي لم يحصل عليها ليو تولستوي صاحب «الحرب والسلم».. ومارسيل بروست صاحب «البحث عن الزمن المفقود»، وفيرجينيا وولف صاحبة «الليل والنهار»، «غرفة جاكوب».. وجيمس جويس صاحب «عوليس» ونيكوس كازانتازاكيس صاحب «زوربا اليوناني»، التي صارت فيلمًا أخرجه مايكل كاكويانيس، وهو أيضًا صاحب «الإغواء الأخير للمسيح» التي قد تكون شاهدتها بتوقيع المخرج مارتن سكورسيزي. ومع هؤلاء، وغيرهم من غير الحاصلين على نوبل، هناك أيضًا «لويس أراجون»، الشاعر الفرنسي العظيم.

هذا عن «نوبل»، فما بالك بعشرات الجوائز التي جرى (ويجري) اختراعها، بين حين وآخر، والتي تذهب في بدايتها إلى كبار، لتكتسب بعض المصداقية، قبل أن تذهب إلى صغار، تحاول تكبيرهم. وغالبًا، ما يكون الهدف من تلك الجوائز هو تأليف القلوب أو الجيوب. وحدث، مثلًا، أن «مجلة حوار» منحت جائزة سنة ١٩٦٥ ليوسف إدريس وقَبِلها في البداية، ثم أعلن رفضه لها. وكان سبب الرفض هو مكالمة تليفونية تلقاها من سامي شرف سكرتير رئيس الجمهورية للمعلومات والمتابعة، نقل له فيها سؤال الرئيس: هل يمكن أن تقبل جائزة من مجلة تموّلها المخابرات الأمريكية المركزية؟! وتقديرًا لرفض يوسف إدريس تلك الجائزة المشبوهة، منحه الرئيس جمال عبدالناصر قيمتها المالية.

سؤال عبدالناصر، الذي وصل إلى يوسف إدريس عبر سامي شرف، أجاب عنه «دنيس جونسون ديفز»، أحد أشهر مترجمي الأدب العربي إلى الإنجليزية، في مذكراته «ذكريات في الترجمة»، التي ذكر فيها أن «جون هانت» ممثل «منظمة الحرية للثقافة» قال له في أوائل الستينيات إنه يفكّر في إصدار مجلة ثقافية باللغة العربية وإسناد رئاسة تحريرها إلى يوسف الخال، صاحب مجلة «شعر»، إلا أن «دنيس» اقترح عليه اسم توفيق صايغ، وكانت تلك هي «مجلة حوار»: مجلة ثقافية، صدرت سنة ١٩٦٢، ومن كتاب «مذكرات توفيق صايغ بخط يده» لمحمود شريح نعرف أنه قضى شهورًا بين بيروت ولندن وباريس، لتأسيس المجلة، التي صدرت وتوقفت بعد خمس سنوات أثيرت خلالها شبهات كثيرة حول مصدر تمويلها، وتحذيرات أكثر أطلقها مثقفون كبار من الدور المريب الذي تلعبه «منظمة الحرية الثقافية».

سنوات وسنوات مرّت، وقطعت الكاتبة الإنجليزية «فرنسيس ستونر سوندرز»، الشك باليقين، في كتابها «الحرب الباردة الثقافية»، وأكدت أن تلك المنظمة، «منظمة الحرية الثقافية»، أسستها المخابرات المركزية الأمريكية (C.I.A) لتتولى الجانب الثقافي في الحرب الباردة، ورصدت لها عشرات ملايين الدولارات وللمشروعات المتصلة بها، وكانت بمثابة وزارة ثقافة لأمريكا، قامت بتعبئة الثقافة كسلاح في الحرب الباردة، مستخدمة جماعات مستقلة وجماعات أصدقاء في اتحاد غير رسمي، أو تحالف مع أفراد يعملون مع المخابرات المركزية لتقديم غطاء وقنوات تواصل لبرامجها السرية والأنشطة الداعمة للسياسة الخارجية الأمريكية، بما في ذلك التخريب والتدمير وتدبير الانقلابات والاغتيالات ومساعدة الحركات السرية في الدول المعادية للولايات المتحدة..

أترك لك المقاربات والقياسات والاستنتاجات والاستخلاصات، وأعود إلى لويس أراجون، الذي لا يزال يتذكره العالم بمؤلفاته الشعرية «قلب كسير»، و«عيون إلزا» وغيرهما. ويكاد يُجمع النقاد على أن كتابه «أحاديث الغناء الجميل» واحد من أهم ما وضع في نظرية الشعر المعاصر. كما لعبت مجلة «الآداب» الفرنسية التي رأس تحريرها دورًا مهمًا في الحركة الثقافية في شرق العالم وغربه. وهو فوق ذلك كله، صاحب مواقف سياسية عظيمة ومشرفة، إذ وقف بقوة إلى جانب شعوب فيتنام والجزائر وساند مصر أثناء العدوان الثلاثي.

أراجون، الذي خسرته نوبل، كسب ما هو أهم.

في ليلة أكثر جمالًا من ليلة العيد، وفي مقهى «لاكلوزري دو ليلا»، أحد أجمل المقاهي الباريسية، وقعت عيناه على إلزا تريوليه، ليكتبا معًا واحدة من أشهر قصص الحب في النصف الأول من القرن العشرين. وبسببها، بسبب إلزا، التفت أراجون إلى الشعر العربي القديم وتعلّق بقيس بن الملوح أو «مجنون ليلى» للدرجة التي جعلته يُسمّي نفسه «مجنون إلزا»، ويصدر ديوانًا شهيرًا بهذا الاسم، احتل مكانًا بارزا في تاريخ الأدب، بينما ذهب عشرات ممن حصلوا على «نوبل» إلى مزبلة التاريخ!.