رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصلاة فى القدس ليست خطيئة


عندما يوجه الرئيس الفلسطينى محمود عباس حديثه خلال قمة «الظهران» إلى كل العرب والمسلمين، مطالبا إياهم بزيارة القدس، وألا يتركوا المقدسيين وحدهم، مؤكدا أن زيارة القدس ليست تطبيعا مع إسرائيل، وأن زيارة السجين ليست اعترافا بشرعية السجان.. فهنا تتلاشى كل دعوات التخوين واتهامات التطبيع لكل من يقرر زيارة المدينة العتيقة والصلاة فى المسجد الأقصى أو فى كنيسة القيامة.. فهل هناك من هو أكثر ولاء لفلسطين من الرئيس الفلسطينى؟!.

ما قاله الرئيس عباس سبق أن ردده مرات عديدة من قبل، ربما كان آخرها خلال مؤتمر الأزهر العالمى لنصرة القدس فى شهر يناير الماضى، عندما قال بالحرف الواحد: «لا تقاطعوا أهل القدس، بل شدوا الرحال، وزيارة القدس ليست تطبيعًا لإسرائيل، بل تشجيعًا للفلسطينيين، ومن باب التقديم، نريد القدس بأهلها ومساجدها، هذا ليس تطبيعًا، التطبيع بطرق أخرى، نيتكم الطيبة لدعم القدس، نتمنى ألا تتركونا وحدنا داخل ذلك الصراع».

القدس اليوم تواجه أزمة وجود لم يسبق لها مثيل، فبعد القرار غير الشرعى للرئيس الأمريكى دونالد ترامب، باعتبارها عاصمة مزعومة لإسرائيل، أصبح واجبا علينا أن نعمل جاهدين لتأكيد عروبتها، وأن نتوجه إليها لنناصر أهلها الصامدين، لا أن ندير لهم ظهورنا خوفا من «غول» التطبيع الذى يخوفنا به خبراء النضال «الحنجورى»، الذين ضيعوا أوطانا بغبائهم السياسى الذى يعتمد على شعارات طنانة جوفاء.
هل تعد الصلاة فى أولى القبلتين وثالث الحرمين، أو فى كنيسة القيامة، تطبيعا أم تأكيدا أن لنا فى القدس حقوقا ومقدسات لا نقبل التنازل عنها، ليس لاعتبارات تاريخية أو سياسية بل لاعتبارات دينية وعقائدية أيضا؟، هل يكون شراء المنتجات المصنوعة بأيدى المقدسيين وإنعاش أحوالهم الاقتصادية تطبيعا أم دعما لصمودهم وإنعاشا لأحوالهم المتردية؟، هل تكون زيارة القدس والتبرع للمؤسسات الفلسطينية خيانة أم تأكيدا على أننا جميعا ندعم الهوية العربية للقدس؟.
إن مقاطعة القدس، والامتناع عن زيارتها، هى فى حقيقتها دعم لحصارها وحصار أهلها، فحكومة تل أبيب تتلقى مساعدات بالمليارات لدعم مشاريع الاستيطان هناك، ولدعم مشاريع تهويد القدس، ونحن نبخل بقروش قليلة يمكن أن نضخها فى الاقتصاد الفلسطينى أو فى اقتصاد المقدسيين الصامدين.
هناك سؤال أتمنى أن نجيب عنه بصراحة، هل استفادت القدس من مقاطعتنا لزيارتها على مدى أكثر من نصف قرن؟، هل حررنا القدس باجتناب زيارتها طوال هذه العقود، أم أننا تركناها للمحتل يفعل فيها ما يريد، فيستولى على بيوت وأحياء عربية ويطلق عليها أسماء يهودية، ويبنى المستوطنات ويمنع تجديد تصاريح الإقامة لأبناء القدس ضمن خطة ممنهجة للتهويد؟. هل ساندنا أهلها ونحن ننقل أخبارها من خلال وكالات أنباء أمريكية وبريطانية وفرنسية تقدم وتحبذ الرؤية الإسرائيلية لكل ما يدور هناك، لأن أى صحفى عربى يخشى التوجه إلى القدس حتى لا يتم وصمه بالخيانة والعمالة والتطبيع، وربما فقد هو وأسرته عمله ومصدر رزقه، لأن كل النقابات المصرية تعتبر زيارة القدس نوعا من التطبيع، ولا تنتظر ماذا سيكتبه الصحفى ولا كيف سيخدم أبناء فلسطين أو قضية القدس؟!.
هل ساندنا القدس أم خذلناها برفضنا زيارتها.. فتدهورت أحوالها وتراجع الاهتمام بها، ووصل الأمر لأن يتحدى الرئيس ترامب مشاعر الجميع ويعلنها عاصمة لإسرائيل؟.
أنا لست مع التطبيع ولا أدعو إليه بأى شكل من الأشكال، فأنا أرفض سجان الشعب الفلسطينى الذى سلبه ماضيه وحاضره ويسعى لحجب مستقبله، لكننى لا أعتبر أن زيارة القدس بوجه خاص، ولأى مدينة أو قرية فلسطينية تحت الاحتلال الإسرائيلى نوع من أنواع التطبيع، فالاحتلال أمر مرفض بموجب القانون الدولى، لكن تحرير الأرض لن يتم من خلال استخدام سلاح «الهجر» أو المقاطعة.
العبرة ليست فى قوة الشعارات بل فى قوة الإرادة والعمل، ولعل هذا يذكرنا بما حدث بعد زيارة الرئيس السادات- رحمه الله- إلى القدس، وما تلاها من توقيع اتفاقية كامب ديفيد، يومها قاطعت الدول العربية مصر، وكونت سوريا والعراق ما عرف لسنوات طويلة بما سمى«جبهة الصمود والتصدى» أو جبهة الممانعة لمواجهة ما سموه «جبهة الاستسلام» بقيادة مصر، وبعد أربعين عاما من اتفاقية كامب ديفيد، عادت سيناء بالكامل وأصبحت كامب ديفيد مجرد وثيقة تاريخية من الناحية العملية، فيما لا تزال الجولان محتلة وسوريا شبه مقسمة، ولم تفلح شعارات الممانعة ولا الصمود والتصدى، رغم جمال المفردات التى أثبت الواقع أنها مجرد كلمات جوفاء لا يساندها عمل حقيقى على الأرض فى استعادة الحقوق.
زيارة القدس الآن بالتحديد واجب وطنى لكل عربى يؤمن بعروبة هذه المدينة، وزيارة المسجد الأقصى وكنيسة القيامة والصلاة فيهما تأكيد على ارتباطنا بهما كمقدسات لا يمكن التنازل عنها، ودعم أهل القدس بزيارتهم وشراء منتجاتهم ومساندتهم بكل الوسائل المعنوية والمادية خير ألف مرة من المقاطعة غير المبررة، والتى تجعلنا نبدو وكأننا ننتظر معجزة من السماء حتى يعود إلينا بيت المقدس.
أتمنى أن أزور القدس وأصلى فى المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين، الذى أسرى الله إليه بنبيه ليلا من المسجد الحرام، والصخرة التى عرج منها الرسول الكريم إلى السماوات العلا.. أريد أن أزور كنيسة القيامة وأن أرى طريق الآلام الذى سار عليه السيد المسيح من باب الأسباط إلى كنيسة القيامة عندما قام اليهود بتعذيبه.. أريد أن أتجول هناك وأرى شوارع المدينة التى تفوح منها رائحة التاريخ، التى نحلم جميعا ونقسم على تحريرها.. بالعمل الدبلوماسى أو بالحرب.. وليس بمجرد المقاطعة.