رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأشواق التى لا تكتمل


للروائى الألمانى توماس مان، عبارة فى روايته «الموت فى فينسيا»- الصادرة عام ١٩١٣- مفادها أن الشوق نتاج المعرفة الناقصة. فهل تكبر الأحلام والأشواق من أو بسبب نقص المعرفة؟ وهل أشواق الإنسان إلى العدل والحرية والحب والكرامة قائمة على أن معرفتنا بما نصبو إليه ناقصة فإذا ما اكتملت معرفتنا بموضوع أحلامنا ذوت أشواقنا؟!.

ذكرتنى عبارة توماس مان بقصة حكاها لى والدى، عن أنه وهو ما زال تلميذًا فى المنصورة وقع فى غرام فتاة، كان يلمح رأسها خلف ستار شباك يوميًا أثناء ذهابه إلى المدرسة وعودته منها.

قال إنه تعلق بتلك الفتاة وتغزل فيها بأجمل قصائده المبكرة، إلى أن اكتشف أنها قُلة فخارية ثابتة فى صحن فوق إفريز الشباك، وكان يهيأ له من ارتجاف الستار فى الهواء أن الفتاة تحرك له رأسها وتتابعه ببصرها! علقت الحكاية بذهنى خاصة حين قرأت فيما بعد قصة ليوسف إدريس بالمعنى ذاته عن شخص فى زنزانة ملاصقة لحائط سجن النساء، وتخيل أن على الناحية الأخرى من جدار زنزانته امرأة تطرق الجدار تواصلًا معه، إلى أن يتضح له أن سجن النساء لا يقع على الناحية الأخرى! إذن فالمعرفة التى لم تكتمل هى التى تؤجج الأشواق، فصارت القُلة عند والدى معشوقة القلب وصار التمنى عند المسجون امرأة تخاطبه.

شىء كهذا يحدث لنا، حين تبدو لنا نظريات التغيير السياسى طريقًا إلى الفردوس الأرضى، ثم نتبين أن الغرام، والولع بالثورة، وهم وراء ستار شفاف أضفينا عليه كل جماله من نقص المعرفة، ومن الشوق إلى المستحيل. أذكر أننى حين سافرت للاتحاد السوفيتى كتبت فى أولى رسائلى من هناك إلى صديق مقرب: «تصلك رسالتى من زمن آخر، من المستقبل». كنت أتخيل أننى بلغت المستقبل الذى ستمضى إليه البشرية! وبمرور الوقت تكشفت الأوضاع هناك عن شىء يختلف عن اللوحة التى رسمها الشوق والتمنى معتمدًا على المعرفة الناقصة. ومنذ نحو خمسين عامًا كان والدى يهون على نفسه ويخاطبنى بقوله: «لم ير جيلنا شيئًا من أحلامه تتحقق، لكن جيلك أنت سيرى العدل والكرامة والمساواة بدون شك».

إلا أن جيلى لم ير شيئًا من ذلك. والآن لا أجد فى نفسى الشجاعة الكافية لأهون على نفسى وأقول لابنتى: «لكنك أنت سترين كل هذا». أسأل روحى: هل كانت الأشواق العظيمة ثمرة معرفة عظيمة ناقصة؟
وهل اكتمال المعرفة هو النقطة التى يبدأ عندها الشوق فى النقصان؟.
فى حياة كل منا «قُلة» على إفريز شباك، قد تكون حزبًا سياسيًا، وقد تكون امرأة، وقد تكون ولدًا يعقد عليه كل آماله، وقد تكون صديقًا، وقد تكون وهم الكتابة، أو القيام بدور بارز. ونحن نمنح تلك الأحلام أجمل أوقاتنا، وأقصى طاقاتنا، ونحيا على أن كل ذلك أو بعضه هو النور الذى نقاتل من أجله، ثم نكتشف أن شيئًا لم يتحقق، ونكتشف أيضًا أن فى الأحلام شيئًا آخر، كالبذرة التى تظل تنمو، وتتمدد مثل الضوء الذى يتخطى كل الحواجز. وهكذا نعرف أن الأحلام كلما تجسدت فى هيئة محددة تجاوزتها إلى صورة أرقى، وأن القلب الذى خفق من أجل قُلة وراء نافذة، هو وحده القلب القادر على الاستمرار والبحث.
لقد طوى الإنسان قلبه آلاف السنوات على حلمه، بأن يكون طائرًا مرفرفًا، يفرد جناحيه على العالم، وكم مرة يتبين له أن حلمه هذا وهم، إلى أن تراكمت لديه المعرفة، فتمكن من التحليق بأجنحة فولاذية إلى أبعد نقطة فى الفضاء. وليس المغزى الرئيسى من قصة القُلة، أننا كثيرًا ما نقع فى عشق الأوهام، لكن المغزى الرئيسى أننا نقع فى العشق. ليس مهمًا أن تتحطم نظريات التغيير السياسية، المهم أننا ما زلنا نريد التغيير، فإذا تحطم الأصدقاء والأحبة، وتكشفوا عن أوهام، فإن الطريق الوحيد لاكتساب الأصدقاء والأحبة هو المزيد من الإيمان بأن العالم ممتلئ بالأصدقاء والكُتاب والسياسيين وبالكثيرين ممن تنطوى جوانحهم على الشعر والأمل. والأفضل أن تعاقبنا الحياة بقولها: «كنتم واهمين» عن أن تعاقبنا بقولها: «لقد عشتم حياتكم بنفوس جرداء قاحلة، بلا عشق، ولا تمنٍ».