رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صلاح سالم: لا توجد حرية في الوطن العربي.. نحتاج لـ«علمانية معتدلة».. و«الأهرام» ليست على ما يرام

صلاح سالم ومحرر الدستور
صلاح سالم ومحرر الدستور - عدسة: محمد أسد

ذاكر كويس، هتعمل حوار مع صائد الجوائز، تلك كانت هي النصيحة التي همس بها إلىّ الروائي والكاتب الصحفي أشرف عبد الشافي، مدير تحرير صحيفة «الدستور» قبل إجراء ذلك الحديث؛ فلم أكن أدرك وقتها أنني على موعد مع رجل صاحب قلم مختلف وعقل موسوعي متفرد.

صال وجال الرجل في حديثه الفكري، لم أقاطعه إلاّ قليلًا، مستمتعًا بحواره وحكايته وحواديته، وعندما انتهي اللقاء خرجت من مكتبه وأنا أردد كلمات مفادها «يا حسرة على البلاد».

ففي الوقت الذي تُفتح الأبواب أمام أصحاب الأقلام المقصوفة والكلمات المبتورة شكلًا ومضمونًا، يجد مفكرًا مثل هذا نفسه قابعًا على دكة البدلاء، دون أن يجد نفسه طرفًا فاعلًا تستعين به الدولة في معاركها ضد قوى الإثم والبغي.

النقطة المضيئة الوحيدة في ذلك اللقاء، تتمثل في مكتبه الكائن في الدور السادس بصحيفة «الأهرام» في نفس المقعد الذي كان يجلس عليه من قبل الراحل العظيم توفيق الحكيم، في اعتراف صريح بقيمة وقامة ذلك المفكر.

إنه الكاتب الصحفي صلاح سالم الحائز على 6 جوائز صحفية وفكرية من جهات دولية، التقته « الدستور» في حوار خاص سرد فيه حكايته مع تلك الجوائز، وبعضًا من حواديته الصحفية، وغيرها من أحاديث الفكر، لحظة تأمل وبدأ معنا حواره من شارع الصحافة:



◘ بداية.. لماذا يقترن اسمك دومًا بقلب «صائد الجوائز»؟

○ مجيبًا يبتسم: «ربما يعود السبب إلي نجاحي في اقتناص 6 جوائز صحفية منذ بدأت مسيرتي مع الصحافة؛ أولاها كانت جائزة الصحافة العربية التي نلتها بعد أعوام قليلة من التحاقي بالعمل داخل مؤسسة «الأهرام».

وهذه الجائزة تحديدًا أدين لها بالفضل، فإليها يعود السبب في كتابة مقالي بالأهرام، ولم أكن تجاوزت 31 من عمري، حيث كنت وقتها أصغر الكتاب سنًا، في ظاهرة لا تحدث كثيرًا في تاريخ تلك المؤسسة العريقة.

◘ كيف تمكنت تلك الجائزة أن تجعل لك نصيبًا في كتابة مقال للرأي في تلك السن المبكرة؟

- سبب ذلك عائد إلى أنني قد وقع على شخصي الاختيار لإلقاء كلمة المكرمين؛ وكان وقتها رئيس لجنة أمناء الجائزة الراحل إبراهيم نافع، وفي الوقت ذاته كان يرأس مجلس إدارة وتحرير «الأهرام».

وبعد أن ألقيت كلمتي قدم لي التهنئة؛ ومعه عددًا من العروض المغرية، التي لا ترفض؛ لكنني اعتذرت لها عنها جميعًا؛ وطالبته فقط بأن يمنحني فرصة الكتابة على صفحات الجريدة، وهو ما وافق عليه بعد جدال؛ باعتبار أنني ما زالت محررًا صغير السن، لكنه أمام إصراري تقبل الأمر، لأكون من حينها أصغر كاتب رأي في الأهرام.

◘ تأسيسًا على تلك النقلة المحورية في مسيرتك المهنية.. كيف جاءت خطواتك التالية داخل بلاط صاحبة الجلالة؟

- كتابتي بصورة منتظمة داخل «الأهرام» منذ بدايات الألفية الجديدة، كانت خطوة كبيرة ونقلة محورية؛ فتحت أمامي فرص حصد المزيد من الجوائز، وهو ما ظهر جليًا في حصدي جائزة دبي للصحافة؛ والتي نجحت في الظفر بها في 3 مناسبات مختلفة، لكن دعني أسجل هنا اعترافي بأنني لا أعتبر نفسي صحفيًا بالمعني الحقيقي للكلمة، فأنا لم أمارس الفنون الصحفية مثل الحوار والتحقيق، لكني دومًا منذ أن كنت في المهد صبيًا، أحلم بأن أكون خادمًا للكتابة دون غيرها، ودائما ما كنت أسعي لامتلاك ذلك الحق بانتظام، وهو ما وفقت ونجحت فيه بدرجة كبيرة؛ فالكتابة هي الإبداع الذي لا ينضب ولا يموت.
◘ إذن لماذا اخترت الالتحاق بـ«الأهرام» طالما كانت الكتابة هي مشروعك الأولى.. خاصة وأن ذلك العمل الإبداعي لا يشترط انتماءك للأسرة الصحفية؟

- «الأهرام» دومًا كانت ندّاهتي وحلمي الأكبر خلال مراحل حياتي المختلفة، كان حلم العمل بتلك المؤسسة العريقة لا يفارقني، وتلك الرغبة الكامنة بداخلي كانت متوافقة مع أمنية الملهم الأكبر في مسيرتي «أبي» ذلك الفلاح المستنير شديد الانتماء للتجربة الناصرية عظيم الإعجاب بظاهرة اسمها محمد حسنين هيكل.

هذا الرجل كان لا يترك فرصة، إلا ويبادر بالكشف عن أمنيته بأن أعمل بالأهرام؛ وعندما التحقت بالعمل بها، اعتبرتها بيتي الأول والأخير، ولأجلها رفضت عروض العمل في العديد من الصحف بأضعاف أضعاف ما أتقاضه من تلك المؤسسة العريقة، ودعنا نعلق الحديث في الصحافة لنخوض في حوار الفكر.

◘ طالما سنخوض في أحاديث الفكر، لا بدّ أن نسأل أولًا لماذا اخترت السير على خُطى الراحل زكي نجيب محفوظ في مشروعك الأدبي والفلسفي؟

- قصتي مع الفيلسوف زكي نجيب محمود، بدأت وقت أن كنت طالبًا في المرحلة الإعدادية، عندما اقتنيت بعض مؤلفاته تمهيدًا لقراءته، وبقيت لفترة طويلة غير قادرًا على فك طلاسم كتاباته؛ قبل أن أنجح في ذلك لاحقًا.

وخلال دراستي في المرحلة الثانوية، كان من ضمن المقرر الدراسي بعضًا من النصوص النثرية الخاصة لـ «نجيب»، ودارت مناقشة بيني وبين معلمتي حول مؤلفاته، لتقف منبهرة وقتها بعدما علمها بأنني قارئ نهم لأعماله.

وخلال المناقشة التي دارت بيني وبينها، طلبت مني وقتها الإطلاع على مقاله الأسبوعي بـ«الأهرام»، وهو ما جعل ارتباطي به يزداد من حينها.

بمرور الوقت وبتعمقي في كتاباته أصبح «نجيب» بالنسبة لي أشبه بالولي الذي لا يأتيه الباطل في أفكاره لا من خلفه ولا من بين يديه، لكن بمرور الوقت وبحكم القراءة المتأنية والعميقة، أصبحت أمتلك رؤية نقدية تجاه مشروعه؛ ففي عالم الفكر لا يوجد إيمان أو اعتقاد دائم، وإن كان هذا لا ينفي أنه مازال وسيبقي المعلم الأول لـ«صلاح سالم».

◘ لماذا اخترت الاشتباك في كتابتك مع القضايا الخاصة بالقومية العربية والصهيونية؟

- حقيقة تلك القضايا لم تُثر اهتمامي إلا مؤخرًا؛ كتاباتي دومًا كانت تدور في فلك تفكيك العقل الأصولي وجدل الدين والتنوير؛ وذلك نابع من إيماني الدائم بأن أشكال فهم الدين ترتبط بعمليات تنظيم المجتمع وبناء الدول.
◘ باعتبار أن قلمك قرر تناول القضية العربية.. دعنا نسأل هل العرب عبر التاريخ يشكلون أزمة ليس لها حل للمجتمع العالمي؟

- إطلاقًا، العرب دائما ما كانوا فعالين في الثقافة الإنسانية، باعتبارهم أصحاب حضارة، وكان لديهم إسهام تاريخي وثقافي مؤثر، لكن ثقافة الاستبداد عادة ما يكون لها رأي آخر.

◘ كيف يكون العرب أصحاب إسهام حضاري وتاريخي بالرغم من كون ثقافة الاستبداد فكرة متأصلة داخل الوجدان العربي؟

- لا أنكر أن الاستبداد موجود دائمًا داخل الوجدان العربي؛ لكن هناك عصور للنهضة العربية؛ أهمها بالطبع تلك الحالة التي ظهرت مع ظهور الإسلام؛ حيث نجح في خلق حالة إنسانية رفيعة، منبعها كان الثورة الأخلاقية والروحية التي صنعها لكن تلك الحالة لم يكتب لها الاستمرار فعندما بدأ التحرك نحو فكرة الحرية، ظهر الميل المحافظ المسيطر على الثقافة العربية، والتي تبلور بصورة واضحة لحظة طرد ابن رشد ورحيله إلي الغرب، فالثقافات تتفتح بقدر ما تحملها الأمم سياسيا.

◘ ترى في فقه الاستبداد آفة لكل الشرور التي نعاني منها.. كيف ذلك وأنت تعتبر نفسك ابنًا للمشروع الناصري الذي تلاحقه اتهامات صناعة الديكتاتورية وتأصيله في الجسد العربي؟

- أولًا: لست ناصريًا بالمعني الشائع للكلمة، لكني أحترم تجربة التحديث السُلطوي التي قام بها ناصر، ومع ذلك فأنا من أشد الرافضين لاستبداده وسلطويته.

ثانيًا: جمال عبد الناصر نجح في إرساء بنية تحتية للتجربة السياسية شكلت القيم الأساسية في التجربة الناصرية؛ ولولا رفضه للديمقراطية لكان للمشروع شأن آخر، ولما تمكن السادات من تنفيذ انقلابه عليه سواء بالخضوع أمام أمريكا أو إعادة فتح الباب أمام قوي التأسلم السياسي.
◘ قاسم أمين منذ أكثر من قرن أطلق دعوة طالب فيها العرب والمسلمين بترك الموروثات القديمة والسير على خطي الحضارة الغربية بحذافيرها لأجل التقدم.. فهل نحن بحاجة إلى ذلك الآن؟

- دعوات قاسم أمين للنهضة كانت معظم تتبلور حول فقه تحرير المرأة دون سواها؛ لكن عندما تريد الحديث عن النهضة العربية، فليس أمامك إلا الحديث عن رفاعة الطهطاوي وخيري الدين التونسي، فهذان الرجلان هما مؤسسي النهضة العربية، إضافة إلى هذين الرجلين، يأتي فيما دور جمال الدين الأفغاني الذي ارتكز على مقومات التسامح وفنون الإدارة والتنظيم السياسي، لكنها عناصر لم تؤتي أكًلها، والسبب عائد إلي وقوع مصر في براثن الاحتلال البريطاني، ومعها وقع الشام والمغرب العربي في أثر الاحتلال الفرنسي.

وبعد سنوات من الاحتلال سقطت الخلافة العثمانية، لتتبلور من بعدها مجموعة من الصراعات الجديدة بين ثلاث تيارات مختلفة أولاها التيار السلفي ويتزعمه رشيد رضا، والثاني يتمثل في التيار «العلموي» برموزه سلامة موسي وفرح أنطوان، بالإضافة إلي التيار النقدي، والذي كان نتاجًا للتيارين السابقين.

◘ تعقيبك عن المزاعم التي يدّعيها البعض في الوقت الحالي حول وجود صراع بين الإسلام كمشروع من جهة والعروبة من جهة أخرى؟

- لا يوجد تضاد أو شقاق بين الإسلام والعروبة؛ باعتبار أن الإسلام فكرة مؤسسة للعروبة، فالعربية كانت تقتصر على جزيرة العرب، لكن مع انتشار الإسلام وذيوعه انتقلت العربية إلي مصر والشام وغيرها، وبالتالي فما يجمعهما هو التكامل وليس التضاد.

◘ لكن هناك الآن من يرجم الإسلام بالقول رافعًا شعار العلمانية هي الحل.. كيف تنظر إلي تلك الدعوات؟

- بشكل شخصي أؤكد لك أنه لا توجد مشكلة بين الإسلام والعلمانية؛ الأزمة فقط تكمن في ربط العلمانية السياسية بالإلحاد، نحن فقط بحاجة إلي علمانية معتدلة تمزج ما بين الهوية العربية والإسلامية.

◘ برأيك.. هل حالة التردي العربي الحالية نتاج لنظرية المؤامرة التي يرددها البعض؟

- نظرية المؤامرة التي يرددها البعض هو رد فعل لأسباب الفشل والضعف السياسي الذي نعانيه، فمفهوم المؤامرة هو عقدة حضارية لأنه كلما كانت الأمة فاعلة كانت منفتحة.

◘ وهل من الممكن أن تحل الديمقراطية كل أزمات الاستبداد والانحدار التي يعاني منها العرب؟

- الديمقراطية نتاج أشياء أخرى، فالديمقراطية التي تقصدها في سؤالك هي ديمقراطية إجرائية، تتأسس على مفهوم الدولة الوطنية أو الدولة العلمانية، تلك الدولة التي لا تعادي الدين بل تؤمن بوجوده في المجتمع لكنها تتجنب وترفض وجوده في أي صراع أو تنافس سياسي، لكي تؤسس لفكرة الدولة العلمانية فالمجتمع بحاجة إلي نوعًا من التوعية الفردية وثقافة التنوير؛ وهي الثقافة التي يؤمن بها الفرد بكونه إنسان فاعل وحر في مجتمعه.

◘ ما هي العقبات التي تمنع شيوع ثقافة التنوير وصحوة الضمير العربي؟

- الأزمة تكمن في الأنظمة العربية الحاكمة، فهي أنظمة لا تستمع إلي أحلام شعوبها، ما يشغلها فقط هو الرغبة في التسلط؛ فلا توجد دولة عربية تتمتع بالحرية، وليس لدينا نظام عربي لديه رغبة حقيقية في التنوير الجوهري، مازالت أؤكد أنه ليس من سبيل نحو خروج العرب من المأزق الحالي إلا عبر تحرير الشعوب مما تعانيه الآن؛ وهذا هو الأمل الوحيد والممكن نحو إقامة حلم الوحدة العربية.
◘ في إطار الحديث عن النهضة العربية يأتي الكلام بالطبع عن المثقفين العرب.. كيف تقيم أدوار هؤلاء داخل مجتمعاتهم؟

- للأسف المثقفون العرب أصبحوا بمثابة عبء كبير على أوطانهم، تنازلوا عن أدوارهم التنويرية والثقافية، وتفرغوا فقط لمهادنة السلاطين والأكل على موائد الأنظمة، والأدهى من ذلك يتمثل في ممارسة هؤلاء فعل الكذب طمعًا في ذهب المعز؛ ومع ذلك تبقي هناك فئة تقبض على مبادئها، وأمثال هؤلاء مطالبون بالعمل على إشاعة مناخ التنوير والدعوة لصحوة الضمير باعتبارها الطريق الأمثل نحو نهضة عربية.

◘ قبل الختام.. ماذا لدى الكاتب صلاح سالم من أحلام يسعى لتحقيقها خلال الفترة المقبلة؟

- دائمًا أحلم بتطوير أفكاري، فأنا لم أكتب أبدًا طمعًا في جائزة، ومع ذلك لا أنُكر الدور الذي لعبته تلك الجوائز في مسيرتي؛ فأنا في اشتياق إلي تلك اللحظة التي أشعر فيها بنجاحي في تفكيك العقل الأصولي، وصياغة معادلات جديدة لجدل الدين والتنوير.

هناك أمل وحلم لا يفارقني يتجسد في عودة «الأهرام» إلي سابق هويتها كشعاع للتنوير والتحريض على التفكير، فأنا اعتبره جزء هام من هويتي؛ ويؤلمني أن أقول لك بأنها الآن ليست في أفضل حالاتها.

◘ أخيرًا.. هل تشابه اسمك مع الصاغ صلاح سالم صدفة قدرية أم حدث متعمد؟

- يضحك: ليست صدفة بل حدث متعمد، فوالدي كما ذكرت لك سابقًا كان ناصريًا قلبًا وقالبًا، ومن فرط تعلقه بثورة يوليو ورجالها، اختار تسميتي على اسم واحدًا من أبرز رجالاتها كنوع من الامتنان والتقدير والعرفان بالحب.