رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تعظيم الذات والزعامة الفردية


الاعتداد بالذات هو احترام النفس والثقة فى قدراتها، ولذلك يعد التقدير للنفس من أهم جوانب الاتزان العاطفى، والقدرة على الإسهام فى بناء الحياة والسير بها للأمام، وعادة ما يؤدى انعدام الاعتزاز بالذات إلى فقد الإنسان الثقة فى نفسه (مهما كان يشغل من مكانة)، وهو ما تترتب عليه سلوكيات عديدة، منها: العنف ضد الأبناء والأسرة والآخرين، وعدم القدرة على اتخاذ القرار، والتوتر، والإدمان، وغيرها من أمراض نراها من حولنا ولا نستطيع تحديد أسبابها على وجه الدقة على الرغم من أنها تعود فى النهاية لعيوب كان يمكن إصلاحها بسهولة منذ الصغر.
وفى هذا السياق فإن من أبرز سمات صاحب العقلية العربية الاعتزاز بذاته، وهذا حق مشروع للجميع، يمارسه كثير من الشعوب إن لم يكن جميعها غربا وشرقا، لكن اعتزاز صاحب العقلية العربية يختلف عن اعتزاز صاحب أى عقلية تنتمى للشعوب الأخرى، فالعربى يعتز بماضيه ودينه وانتمائه الفكرى، فى حين يعتز غير العربى- عادة- بحاضره وبعمله وبإنتاجه الفكرى أو المادى، ولديه استعداد لتغيير فكره وتقبل الفكر الآخر دون أن ينشأ العداء بالضرورة بينه وبين الآخر، ودون أن يحاول تغيير صورة الآخر للصورة التى هو عليها، فى حين يفعل العربى عكس ذلك، فمثلا:
المتدين العربى يرى دينه هو النموذج الذى يجب أن يكون عليه الآخر، ويشعر بالسعادة والنصر الذى يصل إلى حد الاحتفال عندما يستطيع التأثير فى عقيدة الآخر والتغيير من قناعاته الدينية فى الحياة، مدفوعا فى ذلك بفكرة الجهاد فى سبيل الله، أو فى سبيل ما يؤمن به، يفعل ذلك وكأنه يؤدى عملا مقدسا لله دون سواه، وإلا فإن اعتزازه بذاته الدينية سيداخله الشك والخلل والشعور بالتقصير- حاشا لله. والسياسى العربى يخلص لانتماءاته السياسية والمدرسة الفكرية التى يتبعها منذ نشأته، ويسعى لفرض أفكاره السياسية وطرق معالجته للأمور على الآخرين، وإلا فإن اعتزازه بذاته السياسية سيهتز، بل قد يراه خيانة لمبادئه التى نشأ عليها، وأيديولوجيته التى ينبغى ألا يخونها. والمثقف العربى يخلص لمذهبه الذى نشأ عليه، ويسعى لتغيير الآخرين المنتمين لمذاهب أخرى وإقناعهم بمذهبه، ويعتقد أن ذلك إخلاص لجماعته التى ينتمى إليها ونصرة لها، ومساعدة لها على المواصلة والاستمرار والبقاء، وإلا فإن اعتزازه بذاته الثقافية سيهتز، وشعوره بذاته سيداخله الخلل، وبالضرورة قد يتوقف عن الإنتاج. والمواطن العربى العام فى تفاعله اليومى مع الآخرين يخلص لأفكاره ومفاهيمه وقناعاته وعاداته وتقاليده وطريقة فهمه للقيم، وغيرها من عناصر تصادف أن نشأ عليها وفى سياقها، ويسعى أيضا لفرضها على الآخرين، وإلا فإن اعتزازه بذاته سيهتز، وإلى هذا يمكن رد كل النزاعات والخلافات التى تصل لحد الفرقة والتناحر والخصام والقطيعة التى يمارسها خلال حياته مع أقاربه وأهله والآخرين بكل فئاتهم، وما يترتب على ذلك من خسائر مادية ومعنوية تجنيها الشعوب عندما لا تكون هناك اتفاقات بين أفرادها.
الاعتزاز بالذات حق مشروع، ولكنه يحتاج عربيا لتصحيح مسارات، ولإعادة صياغة على مستوى المفهوم، وعلى مستوى التداول، وعلى مستوى الإنتاج، وهو ما سيتطلب مجهودات ضخمة بعضها يعود للوعى الفردى (إن امتلك الأفراد هذا الوعى)، وبعضها سيعود لمؤسسات الدولة من تعليم وصحة وثقافة وإعلام. هذا النموذج من الاعتزاز هو الذى تتولد عنه «الزعامة الفردية»، والتى تبدأ من رؤية كل عربى لنفسه على أنه زعيم، ولو على مستوى زعامته فى إطار أسرته، أو زعامته فى عمله، أو فى سلطة يسعى حثيثا للحصول عليها، وإن لم يدركها فإنه يسعى لإلحاق أبنائه بها، زعيم بمعنى القيادة والسيطرة على الآخرين. وتتدرج مستويات هذه الزعامة الفردية لتصل إلى حد تقديس النموذج الأوحد، والشخص الأوحد، استجابة لنظرية الرجل الأوحد القادر على فعل كل شىء «one man show»، فدائما وفى كل الشعوب العربية، هناك إيمان بشخص وحيد قادر على قيادة كل الأمور (على اختلاف المستويات من أسرة لمؤسسة لدولة)، وسواء أكان هذا الإيمان ناتجا عن استفادة شخصية، أم عن تحقيق مصالح، أم عن اتباع عاطفى بمنطق العاطفية والانفعالية، أم عن أسباب أخرى عديدة، لكنه فى نهاية الأمر يعود لتعظيم الزعامة الفردية، وهو ما يجعل النظرية السماتية فى القيادة (السمات الشخصية بمفهوم علم النفس) هى السائدة حتى فى اختيار القيادات والمسئولين، وليس الاختيار المبنى على اعتبارات تكنوقراطية مثلا، أو اعتبارات علمية ومهارية لها علاقة بالإنتاج وليس بالثقافة القولية والإعلامية الإعلانية فقط (قدرة الإنسان على تقديم خطاب بيانى رنان وإن كان مفرغا من المضمون).
تبحث العقلية العربية طوال الوقت عن الزعامة الفردية، وتتدرج مستويات تمثلها الثقافى فى هذا بين الثقة فى ذاتها، والثقة فيمن تمنحه ولاءها السياسى، وفيمن تراه نموذج الفن والحياة والدين والسياسة.. إلخ، ومعيارها فى ذلك جميعه هو العقل العاطفى والعقل الانفعالى، وليس العقل العلمى والعقل المنطقى، ولذلك تأتى اختيارات المواطن العربى سياسيا بالحب والكره، فهو إما أنه يحب المسئول أو أنه يكرهه ولا مجال للنظر فى قدرات هذا المسئول من عدمها، ويأتى اختيار علاقاته فى الحياة بالحب والكره، واختيار طعامه وشرابه وملبسه بالحب والكره، واختيار الكتاب الذى يقرؤه بالحب والكره.
العربى يثق فى الزعامة الفردية لأسلافه ممن انتقاهم عبر تاريخ حياته (أو التاريخ الذى قرأه) وأحبهم بالضرورة، ويمنع عقله العاطفى من أن يرى قصورا فى زعامتهم، أو انتقاصا منها مهما كانت الأسباب.
لذلك لم يكن غريبا على عقلية هذا الوطن أن تظل حبيسة ماضيها، وأن تزداد لديها معدلات التحجر، وتظهر بينها أشكال جديدة للتشيع الفكرى، والانتماء لفكر متشدد على النحو الذى نراه الآن، ونعانى من آثاره السلبية فكريًا واجتماعيًا واقتصاديًا وسياسيًا.