رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف أثارت كلمة «صباح الخير» تأملات يوسف إدريس؟

يوسف إدريس
يوسف إدريس

قامت دار نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، مؤخرًا، بإعادة نشر أعمال الكاتب الكبير الراحل يوسف إدريس، حيث اهتمت الدار بطباعة أعمال بعض كتابنا الكبار، وإعادة نشرها باستمرار تأكيدًا منها على أهمية التراث الأدبي الذي تركوه لنا وما فيه من إفادة وإبداع، ومن ضمن الكتب التي اهتمت الدار بنشرها كتاب «بصراحة غير مطلقة» للراحل يوسف إدريس، والذي لقبه بعض النقاد بملك القصة القصيرة، والكتاب عبارة عن مجموعة من الدراسات والمقالات جمعها المؤلف عام 1968 ونشرها في كتاب واحد.

ويخبرنا يوسف إدريس في مقدمة كتابه، أنه كتب مادة الكتاب على مدار عشر سنوات وأنه يعتبره عملًا فنيا رغم علمه المسبق بأن آراءه المباشرة التي بثها في ثناياه سوف تجعل النقاد يتعاملون معه بوصفه من الدرجة الثانية، حيث درجوا على الإيمان بمفهوم استحالة وجود الرأي المباشر في الفن، ولا بد في رأيهم أن يستحي الرأي ويتواري ويظهر بطريقة غير مباشرة، وهذا هو الضامن الوحيد لفنية العمل الأدبي وإلا فهو لا يمت للفن بصلة.

على أن يوسف إدريس له رأي آخر فهو يعتقد أننا بخسنا الرأي حقه وظلمناه بشكل واضح، وأن أدق مقياس للعمل الأدبي هو أثره في القارئ، فإذا لم يؤثر الأدب في قارئه فهو ليس فنًا مهما وجد فيه النقاد من رموز وتجريدات.

وعلى ذلك يصبح الفن عند يوسف إدريس هو كل ما يحرك العقل ويجعل الناس تنفعل له بعواطفها والمشكلة ليس في وجود الرأي بالعمل الفني بل المشكلة في طريقة تقديم الرأي حيث يجب أن تصل آراء الكاتب للطبقات الأعمق في نفوس قراءه وتحرك وجدانهم.

ويشير إدريس إلى أنه لا يفرق بين العقل والعاطفة، بمعنى أوضح أن الدماغ البشرية هي كلٌ متكامل كل ما في الأمر أن وظيفة العقل تتصل بتحديد خط السير وكيفيته أما العاطفة فهي التي تجدد الاتجاه بالضبط مثل التكتيك والاستراتيجية؛ فالاستراتيجية هي الوجهة والهدف والتكتيك هو كيفية الوصول إليه ولا يمكن أن يتحرك العقل إلا بدافع من عاطفةٍ ما ولا يمكن أن ينفعل الشخص بعاطفة إلا والعقل مشترك بكل قواه في الانفعال.

ويذكر إدريس في المقدمة أيضًا أن هدفه الوحيد من الكتاب أن يضع أمام القراء من جيله أو من الأجيال اللاحقة صورة حية لتفاعل الكاتب مع أحداث عاصفة جرت في مصر إبان الفترة من 1958 وحتى 1968.

ويخبرنا الكاتب أنه تعب كثيرًا في اختيار المقالات التي وضعها في الكتاب فقد انتقاها من بين 600 عمل من أعماله ولو أنه كان يعرف أن اختيار عدد محدود من يومياته وانطباعاته وما لديه من حكايات سيستغرق كل هذا الوقت والجهد والعذاب لفضل أن يؤلف كتابًا جديدًا فاختيار المقالات لا بد أن يتم في دقة متناهية وعلى أساس تلك الدقة يتحدد صدق الصورة النهائية للعمل من زيفها.

وأطرف ما قد نجده في الكتاب أن الراحل يوسف إدريس ظل يفكر في مشكلة عويصة مدة ليلة كاملة.. هذه المشكلة هي كلمة صباح الخير التي نلقيها على مسامع بعضنا البعض كل طلعة نهار!! وما يسترعي الانتباه أن تحية الإنجليز الصباحية هي جود مورنينج ومعناها صباح طيب أو صباح الخير والسؤال الذي يطرح نفسه كيف تشابهت تحية الإنجليز في الصباح وهم في أقصى الشمال مع تحية العرب بل إنه عند استعراض تحية الصباح في كل اللغات سوف نجدها متشابهة تشابهًا مذهلًا ومحيرا.. كيف يقول البشر لبعضهم يوميًا نفس الكلمات بنفس المعاني؟؟ أليست تلك الحقيقة جديرة بالتأمل؟؟

إن ما نعرفه بداهةً عن الجنس البشري هو أنه يتوزع تقريبًا على كل رقعة الكرة الأرضية وتفصله عن بعضه البعض محيطات وأنهار وسلاسل جبلية ومسافات شاسعة وبسبب هذا التمزق نشأت عدة مجتمعات متفرقة كلٌ منها له تركيبته النفسية والسلوكية المغايرة ولكل مجتمع تقاليده وحضارته ولغته الخاصة، كيف حدث إذن أن تلك المجتمعات المتباينة حين أرادت أن تبتكر طريقة لتحية الناس في الصباح والمساء اختارت نفس المعنى بنفس الكلمات؟

إن ما يدهشنا أن "صباح الخير" موجودة في أرقى المجتمعات وفي أكثرها تخلفًا وأنها وجدت عند الفراعنة قديمًا كما وجدت عند قبائل الهنود الحمر مع ما بينهما من مسافات بحرية لا يمكن اختراقها في ذلك الوقت؛ فما السر إذن؟

السر أن طريقة انفعال الجنس البشري واحدة مهما اختلفت الظروف أو الأحوال، فالشمس حين تطلع على الناس جميعًا تولد فيهم نفس الشعور وتدفع كل إنسان أن يلتفت إلى الآخر ويقول صباح الخير إنها ترجمة إنسانية واحدة لإحساس البشر باليوم الجديد.

إن البشر لا يتشابهون فقط في الملامح الخارجية ولكن في الملامح الداخلية أيضًا وتشابه الأعماق هو التشابه الأكثر رسوخًا والأهم من اختلاف الألوان واللغة والأطعمة والملابس، إنه تشابه عميق ونراه يبدو أحيانًا في شكل تصرفات بسيطة قد لا نلقي لها بالًا من شاكلة عبارة صباح الخير التي تواضع عليها البشر من تلقاء ذاتهم وبوحيٍ من فطرتهم الإنسانية.

ويختم الكاتب مقالته الأولى في الكتاب بقوله "تأملوا معي تلك الحقيقة فربما أدى بنا التأمل إلى كشف حقائق أخرى لم ندرسها في الكتب عن الإنسان، ذلك المجهول".