رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«رسالة سيناء الثالثة».. مشاهد حية من معارك «خير أجناد الأرض» ضد الإرهابيين

جريدة الدستور

لم أكن أعرف، وأنا أترك خلفى زحام القاهرة بضجيجها الذى لا ينتهى، وأحداثها التى تتجدد كل لحظة، أننى على موعد لتوثيق صفحة جديدة من تاريخ مصر الحديث، ولم أكن أعرف أن هناك فى أرض سيناء رجالا لا ينامون دقيقة واحدة ويتحملون من الصعاب ما لا يتحمله بشر، فهم يحملون أرواحهم على كفوفهم ويتركون أبناءهم وأسرهم لكى نتمتع فى منازلنا بالأمان.

ذهبت ورأسى محمل بالعديد من الأسئلة عن العملية الشاملة «سيناء ٢٠١٨»: لماذا هى تختلف عن العمليات العسكرية السابقة مثل (حق الشهيد ١) و(حق الشهيد ٢)، وغيرهما؟، ولماذا لم يتم تنفيذها من قبل؟ وما الذى تحمله تلك المعركة فى طياتها بعيدًا عن البيانات الإعلامية العسكرية التى تخرج علينا بشكل يومى؟».


المقاتلون لا يتركون فرضًا من صلاتهم فوق قمم الجبال.. ويدخرون ماء الشرب للوضوء

بمجرد أن وطئت قدماى «أرض الفيروز»، شاهدت وتعايشت، على مدار أسبوع كامل، مع قوات الجيش الثالث الميدانى على جبهات القتال فى وسط سيناء، لحظات الانتصار والسهر والتأمين والفرح والبكاء على الشهداء والأصدقاء وزملاء الدفعة واللقمة.
علمت أن حجم العمليات العسكرية التى تقوم بها قواتنا المسلحة هو الأكبر من نوعه منذ حرب أكتوبر ١٩٧٣، ولأول مرة أدركت المقولة الشهيرة «سينا رجعت تانى لينا ومصر اليوم فى عيد» بالمعنى الحرفى للكلمة.
هناك، رأيت أسطورة- أسد الصاعقة، العميد إبراهيم الرفاعى، قائد سلاح العمليات الخاصة فى حرب أكتوبر ١٩٧٣، قائد المجموعة ٣٩ قتال، تعيد نفسها- تتشكل من جديد عبر كثير من الشهداء الحاليين فى سيناء، خاصة مجموعة الشهيد أحمد منسى بطل الصاعقة.
عدت إلى القاهرة بعد أسبوع، ما رأيته فيه أكسبنى ما يكفى باقى عمرى من شهادات وحكايات وعبر، كأننى ذهبت لأوثقها لتكون دروسا تغير حياتى الشخصية والمهنية.
احتضننى أبى عندما كشفت له أنى كذبت عليه هو وأمى، وأنى لم أكن مسافرًا فى رحلة لمؤتمر تدريبى فى فرنسا، بل كنت مع مقاتلى قواتنا المسلحة على جبهة المعركة ضد الإرهاب فى جبال سيناء، ولم أكن أستطيع إخبارهما كى لا يقلقا.
لم أتردد فى أن أقول لهما إننى أصبحت زاهدًا فى القاهرة، فنحن هنا ننعم بكل شىء من مباهج الحياة والاتصالات والإنترنت والمأكل والمشرب، وأعلم يقينًا أن باقى المصريين مثلى، أبناء الأعمال المدنية، سينتابهم نفس الشعور إذا رأوا ما رأيت وشاهدوا وعايشوا ما يقوم به الأبطال لحماية أرضنا من خوارج العصر من الإرهابيين.
وبينما كنت أسرد لأبى ما تعلمته من رحلتى، فجأة حضرنى مشهد عايشته وأنا بصحبة القوات فى أرض المعركة، فوق أحد الجبال الوعرة، لن أنساه طيلة حياتى.
المشهد لمجند مقاتل من قوات الصاعقة كان يرابط على الجبل لـ٤٠ يومًا، ورغم حالته المرهقة وقلة المياه معه، حمل كوبًا من الماء وكان آخر ما تبقى معه ثم شرع فى الوضوء وبدأ يصلى بعدما وضع سلاحه بجواره واحتمى بظل المدرعة، التى كانت بجواره.
نحن هنا فى القاهرة نترك صلاتنا، وهو هناك يعطى درسًا لكل الإرهابيين بأنه يعلم الدين ويعمل به أكثر منهم، ويلتزم بفرائضه أفضل منهم.
ورغم أننى لم أنل شرف الخدمة فى صفوف مقاتلى القوات المسلحة، لظروف صحية منعتنى من ذلك، إلا أننى خلال تلك الرحلة تعلمت الصبر الحقيقى من هؤلاء الرجال.

فبمجرد وصولى لإحدى الكتائب بوسط سيناء مكثت يوماً  كاملاً بداخلها ولم أتمكن من الخروج والانتقال نظراً لأن قوات التأمين الخاصة بمصاحبتنا وحمايتنا لم تأت، فحنقت وتضايقت في اللحظات الأولى لكنى بعد ذلك تعلمت ماذا تعنى الآية القرآنية "وكل شىء خلقناه بقدر" وكل شىء له موعد، تعلمت الجلد والصبر، حتى أنى بعد عودتي للقاهرة واستقليت مترو الأنفاق لأذهب لمقر عملي كان المشهد مزدحم للغاية ولا مجال للتنفس ولكنى ابتسمت على غير عادتي واعتدت الأمر لأنني كنت في السابق يضيق صدري من التلاحم في المواصلات.

 

ضباط الشئون المعنوية: الجنود المجهولون فى المعركة يوثقون كل شىء بالصوت والصورة

فى الحرب لكل فرد وظيفته، فالجميع جنود فى المعركة القائمة ضد الإرهاب، ومن بينهم رجال الشئون المعنوية، المسئولون عن كل كلمة تصدر عن المؤسسة العسكرية. ربما لم يكتب أو يتحدث عنهم أحد، لكنهم بحق الجنود المجهولون فى المعركة.
كانت مهمتهم الأولى هى تأميننا وتذليل كل العقبات أمامنا لتوثيق كل مشهد هناك، وإذا كان المقاتلون على الجبهة لا ينامون فرجال الشئون المعنوية يعدون حاملى الكلمة.
سألت أحدهم، من الضباط المرافقين لنا، وهو شاب برتبة نقيب: «كيف تجمعون البيانات والأرقام والنتائج من قادة قوات الجيشين الثانى والثالث بعد أن يرسلوها لكم لتكتبوها فى البيانات الخاصة بالعملية الشاملة؟».
أجابنى أن كل كلمة تصدر عن المؤسسة العسكرية يتم التأكد منها حرفًا حرفًا وكلمة كلمة ورقمًا رقمًا، وأضاف: «ضباطنا بأفرع الشئون المعنوية وبأفرع العمليات يوثقون ذلك بالصوت والصورة، كى لا تكون أى معلومة محل شك أو نقاش».
سألته: «لماذا تتأخر البيانات العسكرية عن الأحداث؟، ولماذا لا يكون هناك بيان متابع للحدث أولا بأول، كى لا ينتهز الإرهابيون الفرصة وينشروا فيديوهاتهم الترويجية المدعومة من دول أخرى، فأكد أن القوات المسلحة لا تتعامل مع الأخبار المزيفة أو الشائعات، سواء بالنفى أو الإيجاب، لأنهم يعلمون تفاصيل حرب الجيل الرابع وآلياتها فى الدعاية و«السوشيال ميديا»، لذا فالكلمة عندما تصدر من القوات المسلحة يكون لها حساب ومسئولية كاملة تليق بجيش مصر العظيم.
سيرة الشهادة ما زالت عالقة فى ذهنى، كنت قد انفردت بأحد ضباط الصاعقة، وهو على وشك الزواج، فحكى أنه من محافظة قنا، وأنه اعتاد حياة الجبال وأصبح له هدف يسعى له، مؤكدًا، وكل نبرات صوته صدق، أنه يتمنى الشهادة أكثر من الزواج، وأنه عندما يعود لمنزله لا يكون سعيدًا، بل يسيطر عليه الملل، لأنه ترك رفاقه على الجبهة وفارق مكانه، حيث يشعر بأنه شريان دم يضخ للوطن كل ما ينعش الحياة.
حكايات وهتافات المقاتلين خلال التدريب بأسماء زملائهم، الصاعدين إلى ربهم من ساحات المعارك، حاضرة هنا بقوة، حتى لا ينسوا أسماءهم وليكونوا بمثابة ضوء ينير لهم الطريق.
وكلهم يتفقون على مقولة «شهيد بيسلم شهيد»، إيمانًا بأن الإرهاب مهما قتل وأسقط شهداء، فإن مصر باقية وهم زائلون.

مشايخ القبائل: الإرهابيون فى الإنعاش بعد عمليات «سيناء 2018»

بمجرد انطلاق العملية الشاملة «سيناء ٢٠١٨»، شارك شرفاء البدو مع رجال القوات المسلحة المصرية فى حملتهم لتطهير أرض مصر من الإرهاب، وعمل بعضهم كأدلاء طرق، وقصاصى أثر، للقوات، خاصة فى المناطق الوعرة، وكهوف الجبال التى يحفظ التكفيريون خريطتها عن ظهر قلب.
وكان حجم الدعم الذى قدمه أهالى سيناء إلى القوات المسلحة مفاجئا بشكل كبير، فى ضوء ما أشاعه الإرهابيون طيلة سنوات عن وجود تنسيق بينهم وبين البدو فى بعض المناطق، ما دفعنا لتحرى الأمر، وسؤال مشايخ القبائل عن حقيقة ما أشاعه الإرهابيون، والدوافع الحقيقية وراء هذا الدعم الكبير كمًا وكيفًا، لجهود الجيش المصرى فى مواجهة الإرهاب.
البداية كانت من قبيلة «الترابين»، فى وسط سيناء، التى التقينا أحد مشايخها، من أصحاب الكلمة المسموعة فى المنطقة، وسألناه عن رؤية بدو سيناء لهذه المجموعات التى يستهدفها الجيش المصرى فى حملته.
شيخ «الترابين» قال إن الفكر التكفيرى مصطنع ودخيل على الفكر القبلى فى سيناء، كاشفًا عن أن الإرهابيين يستهدفون البدو، كما يستهدفون قوات الجيش سواءً بسواء، كما أنهم يهابون شيوخ القبائل، لأنهم يعرفون تاريخهم الأسود، الذى يمتلئ بالتجارة الحرام والتهريب، وسفك الدماء.
وقال الشيخ: «أوضح دليل على عمالة وخسة هؤلاء التكفيريين هو أنهم يتركون الاحتلال الإسرائيلى آمنًا، ويستخدمون أجهزة اتصالاته، وخطوطه، لتنفيذ عملياتهم وقتل المصريين».
وأضاف: «الوصف الأمثل لوضع التكفيريين الآن هو أنهم فى غرفة الإنعاش، بعدما قطعت القوات المسلحة عنهم جميع سبل الإمداد والتموين، ودمرت كل مخابئهم ومخازنهم اللوجستية، التى كانت ممتلئة بالقمح والوقود ومواد الإعاشة، بالإضافة إلى السلاح والذخيرة».
وأشار شيخ «الترابين» إلى أن الرئيس عبدالفتاح السيسى لم يكتف فقط بمواجهة الإرهابيين فى وسط سيناء عبر المعارك والمداهمات، بل بدأ منذ اللحظة الأولى، التى تولى فيها حكم البلاد، فى تعمير كل نقطة، ضاربًا المثل بجهود القوات المسلحة، وبنائها لأعداد كبيرة من المساكن فى مناطق: «المغفر والمنبطح وخشم الجاد»، بمعدل ٥٠ وحدة سكنية فى كل منها.
وأشاد بتولى القوات المسلحة حفر وتجديد وتطوير آبار المياه فى المنطقة، معتبرًا أنها الطريقة المثلى لمكافحة الإرهاب، خاصة أن التكفيريين يخشون بشكل كبير من التعمير والتحضر.
تركنا مناطق قبيلة «الترابين» وتوجهنا إلى قبيلة «التياهة»، والتقينا أحد مشايخها، وسألناه عن سر العداء بين الإرهابيين ومشايخ القبائل، فقال لنا إن الإرهابيين ظنوا لفترة أنهم إذا استهدفوا كبار المشايخ، وقتلوهم بسبب خدمتهم لوطنهم ومساندة قواتهم المسلحة ستخلو لهم الساحة فى سيناء، لكنهم فوجئوا بأننا نوصى أبناءنا بالحفاظ على الأرض، ومواجهتهم حتى آخر قطرة من دمائهم.
وأشار شيخ «التياهة» إلى أن القبائل، ورغم وجود بعض المشكلات بينهم، إلا أنهم يكونون على قلب رجل واحد فى مواجهة الشدائد والأزمات، مؤكدًا أن الجميع تناسى مشكلاته ومصالحه الخاصة من أجل المصلحة العامة، وحب الوطن.
وأضاف: « ما يريده الإرهابيون لا علاقة له بالمصلحة، خاصة أن الدولة قدمت الكثير لمناطق وأهالى سيناء، رغم الطبيعة الجبلية للمنطقة»، وتابع: «لدينا الآن فى منطقة نخل مستشفى طبى مجهز بأحدث أنواع الأجهزة، وأشهر الأطباء، وهو واحد من أكثر المستشفيات تجهيزًا فى مصر كلها».
وختم حديثه: «الدولة تقدم كل هذا، وتتكلف مئات الآلاف من الجنيهات لخدمة أبناء المنطقة، لكن هؤلاء الإرهابيين يريدون تدمير كل شىء، وإعادتنا للمعيشة الصعبة فى الصحراء والجبال».
تركناه وتوجهنا إلى شيخ آخر من نفس القبيلة لسؤاله عن جنسية هؤلاء المخربين، وكيف أتوا إلى سيناء، واستوطن بعضهم فيها، فقال: «خلال عهد الرئيس الإخوانى محمد مرسى، دخلت المنطقة مجموعات إرهابية، من فلسطين واليمن والجزائر ودول أجنبية أخرى».
وأضاف: «علمنا أن معظم هؤلاء كانوا تجارًا للعبيد، ويعملون فى شرق إفريقيا، وبعضهم كان يخطط فى الأساس لشراء أراضٍ من سيناء، بشكل خفى، تحت ستار شركات إسرائيلية عاملة فى إريتريا وإثيوبيا، ما يصب فى النهاية فى صالح إسرائيل، لكن مخططهم فشل، بعد قرار حظر تمليك الأراضى فى سيناء».
وعند سؤال الشيخ عن علاقة بدو سيناء بإسرائيل، نصحنا بالتوجه إلى أحد كبار المشايخ فى وسط سيناء، واصطحبنا لمكانه، ليحكى لنا الحكاية منذ البداية، على حد تعبيره.
الشيخ الذى التقيناه، كان طاعنًا فى السن، وأجابنا بقوله: «اليهود منذ القدم وهم يخططون لاستيطان سيناء، والجميع هنا لا ينسى ما حكاه لنا أجدادنا عنهم، ومن بين الحكايات قصة شهيرة تناقلتها الأجيال، وهى تعبر عن طبيعة العلاقة بيننا وبينهم، منذ عقود طويلة».
وأكمل: «قبل حرب أكتوبر ١٩٧٣، تواصل وزير الدفاع الإسرائيلى موشى ديان مع كبار عوائل سيناء، وأخبرهم أنه سيلبى جميع احتياجاتهم وطلباتهم، وسيبنى لهم المساكن، ويعطيهم ما يريدون من أموال، بالإضافة إلى أحدث أنواع الأسلحة، مقابل التعاون معه».
وأضاف: «كبار المشايخ طلبوا منه مهلة زمنية للاجتماع، من أجل دراسة طلبه، وبعد وقت قصير أخبروه بردهم المفاجئ وهو: (لنا رئيس اسمه جمال عبدالناصر، تفاوض معه إن أردت، ولو وافق على طلباتك سنوافق نحن عليها)».
وتابع الشيخ: «هذه اللحظة حددت علاقتنا بأعداء الوطن، سواء كانوا إرهابيين أو إسرائيليين، لهذا ستجدون أبطالًا من بدو سيناء يشاركون فى العملية الشاملة، أبرزهم أبن عمنا، الذى تمكن وحده من تصفية مجموعة من الإرهابيين وسط الجبال، عندما حاولوا اعتراضه وقتله، نظرًا لجهاده ضدهم، ورفضه تكفيرهم».
واستطرد: «لا يمكن لأحدنا أن ينسى قصة استشهاد سليمان حسين الأعرج، الذى قتله الإرهابيون بعد استضافته أفراد الجيش على مائدة إفطار فى شهر رمضان، أقامها لهم داخل منزله، فانتقم منه التكفيريون، وأقسم شقيقه أن يثأر له، ولم يتوقف حتى تم تصفية الأربعة الذين قتلوه، بعدمه القوات المسلحة».

لقراءة الموضوع عبر cross media
  «رسالة سيناء الثالثة»