رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صدفة.. مؤامرة.. أم غباء؟!


 

لـ«إريك دورتشميد»، Erik Durscmied، الذي عمل مراسلًا حربيًا لـ BBC وCBS، كتاب شديد التفاهة والسطحية، عن «دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ». غير أن الفكرة التي يقوم عليها الكتاب شديدة العمق، ويمكن تلخيصها في أن كثيرًا من المعارك تم حسمها بفعل عامل الطقس، الذكاء الحاد، الغباء الشديد، بطولة غير متوقعة، فشل ذريع، أو أي عامل لا يمكن التنبؤ به، معروف في المصطلحات العسكرية باسم «العامل الحاسم».

في «بليونيرات بالصدفة» الذي صدر سنة ٢٠٠٩ وتحول بعد أقل من سنة إلى فيلم عنوانه «الشبكة الاجتماعية»، أرجع «بين ميزريخ» إلى «الصدفة» قصة إنشاء شبكة التواصل الاجتماعي «فيسبوك». الأمر الذي، أشرنا أمس إلى أنه صار محل شك بعد مياه الفضائح الكثيرة التي جرت في النهر، والتي كان أحدث دلو (جردل) تم إلقاؤه فيها، هو حصول شركة «كامبريدج أناليتيكا» على بيانات ٥٠ مليون حساب على الشبكة، تم استخدامها في توجيه الأمريكيين لانتخاب دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، وفي توجيه البريطانيين للتصويت بـ«نعم» في استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

الاعتراف، الذي هو سيد الأدلة، جاء من ألكسندر نيكس، الرئيس التنفيذي للشركة البريطانية، فهل كان صدفة أن تنجح، في هذا الوقت بالتحديد، حيلة مراسل القناة الرابعة التليفزيونية البريطانية، الذي ادّعى أنه مرشح في الانتخابات السيريلانكية ويريد الاستفادة من خدمات الشركة؟!. وهل كان صدفة أن يأتي ذلك بعد أسابيع من اتهام تيريزا ماي، رئيسة الوزراء البريطانية، لـ«روسيا» بأنها تسعى إلى تقويض المؤسسات الغربية. وبأنها مسئولة عن نتيجة استفتاء يونيو ٢٠١٦ بشأن انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وبأنها أيضًا تدخلت في انتخابات الرئاسة الأمريكية؟!. هل كان صدفة أن تظهر اعترافات «نيكس» بعد أسابيع من إعلان الحكومة البريطانية أنها ستتعامل مع تلك التحديات المعقدة، المتشابكة باستخدام أكثر وأفضل الوسائل لحماية الأمن القومي؟!.

لو كان للصدفة دور في كل ما سبق، سيكون صعبًا أن تتقبّل أن لها دورًا أيضًا، في إثارة تلك الفضيحة بعد أسابيع من إقرار قانون جديد، وقبل أسابيع من دخوله حيز التنفيذ في ٢٥ مايو القادم: قانون أقره البرلمان الأوروبي، يضع ضوابط تستهدف حماية البيانات الشخصية لمواطني الاتحاد الأوروبي ويفرض عقوبات صارمة على عدم الالتزام بها. وأذكرك لو كنت نسيت أن «نيكس» اعترف بأن شركته قامت بتطوير برنامج معلوماتي، مكّنها من الحصول على البيانات، وأنها استطاعت بعد تحليلها أن تتعرف على توجهات وميول وآراء أصحاب الحسابات، قبل أن تضع استراتيجيتها للتأثير عليهم وتوجيههم.

قد تتضح الصورة أكثر، لو عرفت أن هناك إصرارًا على ربط روسيا بالفضيحة، بالتركيز على أن ألكسندر كوجان، متعاقد مع جامعة سان بطرسبرج الروسية. والمذكور، أستاذ علم النفس في جامعة كامبريدج، وهو مطور التطبيق الذي استخدمته الشركة في جمع البيانات الشخصية للخمسين مليون مستخدم، وهو أيضًا الذي أمدها بعدد من وسائل وأدوات التحليل السلوكي لمستخدمي فيسبوك. وحتى تزيد الشكوك، ظهرت صورة تجمع بين ألكسندر نيكس، وألكسندر ياكوفينكو، سفير روسيا لدى بريطانيا، الذي نفى الخميس، وجود أي صلة تربط «موسكو» بالشركة. ورد على الصورة بأنه كان قد تلقى دعوة من نادي وندسور (للبولو)، وطلب منه المنظمون أن يقوم بتسليم جوائز لكل أعضاء الفريق. مؤكدًا لوكالة «رويترز» أنها «كانت هذه هي المرة الوحيدة التي التقيت فيها بهذا السيد».

ينفي أي دور للصدفة في ذلك كله تأكيد ماكس شريمس، أن «فيسبوك» كانت تعرف منذ سنة ٢٠١١ (منذ سنة ٢٠١١) بالمشكلات المتعلقة بتطبيقات الجهات الثالثة، وأكد أنه عقد اجتماعًا مع ممثلين للموقع الأمريكي للتباحث في المخاوف التي يثيرها استخدام مثل هذه التطبيقات، إلا أنهم أكدوا له أنهم لا يرون أي مشكلة في الموضوع. و«شريمس»، محام نمساوي، يوصف بأنه ناشط حقوقي مدافع عن الخصوصية، أقام بداية أغسطس ٢٠١٤ دعوى قضائية ضد شركة «فيسبوك» يتهمها فيها بانتهاك خصوصية المشتركين، واستخدامها بياناتهم الشخصية، دون موافقتهم. وطالب مستخدمي الموقع البالغ عددهم ١.٣ مليار شخص بالانضمام إليه. وبالفعل انضم إليه ١٢ ألفًا وصلوا إلى ٢٥ ألفًا في ٢٥ يناير الماضي.

مع الدعوى التي أقامها في أغسطس ٢٠١٤، ضد شركة فيسبوك أيرلندا، المسئولة عن جميع عمليات «فيسبوك» خارج نطاق أمريكا الشمالية، أقام «ماكس» أيضًا عدة دعاوى ضد كبرى شركات التكنولوجيا الأمريكية العملاقة، ميكروسوفت وجوجل، إلى جانب «فيسبوك»، يتهمها فيها بأنها ساعدت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في التجسس على مواطني الاتحاد الأوروبي. وما يفتح ألف باب للشك هو أن تلك الدعاوى نامت أو تاهت في الدهاليز، ولم يتجدد الكلام بشأنها إلا في يناير الماضي، حين رفضت محكمة العدل الأوروبية قبول دعوى أقامها «شريمس» بالنيابة عن ٢٥ ألف مشترك وقالت إنه يمكنه إقامة دعواه أمام المحاكم النمساوية. ووقتها أعلن «شريمس» أنه سينتظر القانون الجديد، الذي أصدره الاتحاد الأوروبي، والذي أشرنا إلى أنه سيدخل حيز التنفيذ في ٢٥ مايو القادم.

قد يكون للصدفة دور في كثير مما سبق، وقد يلعب الغباء دورًا أيضًا. لكن ذلك لن يوقف «الفئران» عن اللعب في عقلك أو في «عبّك» ولن يغلق الباب أمام «نظرية المؤامرة» ولن يقطع الطريق أمام الشك. كما لن ينفي أن «كارل فون كلوز ويتنر» كان محقًا حين قال: الصدفة والشك اثنان من أهم عناصر الحرب شيوعًا.