رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

(رسالة سيناء الثانية).. ليلة داخل كمين أقيم على أنقاض مستشفى هدمه التكفيريون فى وسط سيناء

جريدة الدستور

فى رحلتنا إلى شبه جزيرة سيناء، لرصد تفاصيل الحياة اليومية لجنود وضباط القوات المسلحة، المشاركين فى العملية الشاملة «سيناء ٢٠١٨»، سمح لنا المسئولون بالمبيت فى أحد الكمائن، التى أقامها الجيش، لتأمين كل المناطق السكنية والطرق الرئيسية، من أجل مواجهة تحركات عناصر الجماعات الإرهابية، التى تحاول التنقل ليلًا تحت ستار الظلام.

وعلى بعد ٥٠ كيلومترًا من الحدود، وصلنا إلى أحد أهم الكمائن الواقعة فى وسط سيناء، وبدأنا معايشة حقيقية لساعات الخطر، التى يقضيها أبطالنا، من أجل تطهير الوطن من التكفيريين، وكان لنا شرف الاشتراك معهم فى رحلة خاصة، لجلب جثة أحد الإرهابيين، بعدما لقى حتفه على يد قناصة الجيش المصرى.

الجنود وضعوا نصبًا يذكرهم بالشهداء.. ونظارات رؤية ليلية لمسح الصحراء كل 3 دقائق
فور وصولنا إلى منطقة الكمين الحدودى، أخبرنا الجنود بأن المبنى الذى نحن فيه كان فى الأصل مستشفى، وأن المبنى المتهدم فى المقابل كان مدرسة، ويفصل بينهما طريق أسفلتى، قبل أن يفجرهم التكفيريون، أثناء تهجيرهم الأهالى من القرية.

علمنا أيضًا بأن القرية كانت تضم محطة لتحلية المياه، وعددًا من المبانى الحكومية والخدمية، دمرها الإرهابيون أثناء محاولتهم فرض السيطرة على الأهالى، وإجبارهم على اعتناق الأفكار التكفيرية، أو مواجهة القتل والتهجير، قبل أن يطرد الجيش هؤلاء التكفيريين من مناطق تمركزهم.

لهذا السبب، كما أخبرنا الجنود، يتعاون الأهالى بشكل كبير مع القوات المسلحة، التى أعادت إعمار القرية، وحولت مبنى المستشفى إلى مقر لإدارة الكمين التأمينى، ومبنى المدرسة إلى مبيت للضباط والجنود.
ويضم الكمين سرية مدفعية، وعدة تشكيلات قتالية، من قوات الصاعقة والمشاه والمدرعات، وغيرها من المجموعات المتخصصة فى المداهمات الجبلية، واصطياد العناصر الهاربة فى الجبال، فى نطاق الجيش الثالث الميدانى.

وعلى جانبى الطريق الأسفلتى المؤدية إلى القرية، تتمركز القوات على تبات عالية تشرف على الطريق، الذى يحوى بعض الكتل الأسمنتية الضخمة، ما يجبر السيارات على السير بشكل متعرج، وإبطاء سرعتها، حتى يتمكن الكمين من التعامل معها، فى ظل استخدام التكفيريين السيارات المفخخة.

فى أعلى المبنى، شاهدنا عناصر التأمين المتمركزة، وهى ترصد كل شىء فى المنطقة، وتمسح المحيط بشكل كامل، فى دورة متتالية لا تستغرق أكثر من ٣ دقائق، كما رصدنا وجود «مقربات رؤية» حديثة، ونظارات ليلية متطورة، تعمل بالأشعة تحت الحمراء، ما يسمح للقوات المتمركزة فى الأعلى برصد أى تحركات بمنتهى الدقة، واستهدافها أى عناصر إرهابية، تحاول زرع العبوات الناسفة فى محيط الكمين، أو تخطط لاستهدافه.

داخل الكمين، علق الضباط والجنود لافتات تذكارية، بها صور وأسماء زملائهم من الشهداء، الذين استشهدوا فى هذا الكمين، وفى المناطق المجاورة، مع وضع «مسلة» تذكارية، كرمز بسيط لهؤلاء، الذين لا يعرفونهم أو يتذكرونهم من الأبطال.

وعندما سألنا عن الرمز التذكارى واللافتات، قال لنا ضابط برتبة نقيب: «الضباط والجنود وضعوها هنا، حتى لا ننساهم، وكى لا يغيبوا عن عيوننا دقيقة واحدة»، وأكد أنهم لن يتركوا الكمين إلا على جثثهم، حتى لو أدى الأمر إلى استشهاد أفراد القوة جميعًا.
وأشار النقيب إلى أن التكفيريين كانوا يستهدفون الكمين مرة بعد أخرى، إلا أنهم فى الأشهر الأخيرة فشلوا فى الاقتراب منه، رغم كل محاولاتهم لذلك، بعد أن أصبحوا محاصرين فى جحورهم، على حد تعبيره.

مع حلول المساء، نفذت سرية المدفعية ضربتين لأحد أوكار التكفيريين فى إحدى المناطق الجبلية الوعرة المحيطة بنا، تردد صداها فى الأرجاء، ما أثار حالة من الحماسة لدى الجنود فى الخدمة الليلية، وأيقظوا زملاءهم الذين يقومون بتبديل الخدمة معهم، كل عدة ساعات.
بعدها بدقائق، سمعنا صوت طلقات نارية متتالية، فقال لنا القائد: «ما تخافوش.. عيوننا لا تنام أبدًا، وقواتنا مستيقظة، ولا يغمض لها جفن فى كل المنطقة».

طمأننا حديثه، فى ظل ما شهدناه نحن أنفسنا فى الكمين، الذى ترتفع فيه بين حين وآخر كلمة «ثابت»، وصيحات: «اقف مكانك.. وسيب اللى فى إيدك.. وارفعها لفوق»، وهى المقولة التى تتردد عند اقتراب أى شخص من المنطقة، قبل تفتيشه، والتأكد من هويته، قبل السماح له بالمرور.

«الله أكبر.. إصابة فى الرأس».. كيف اصطاد مقدم «تكفيرى استطلاع»؟
فى أعلى تبة مرتفعة، يوازيها على مسافة ٤ كيلومترات أحد الجبال المرعبة، والمعروف بأنه الأعلى والأكثر خطورة فى المنطقة، تمركز أحد الضباط برتبة مقدم، مستلقيًا بجوار إحدى السيارات المدرعة، ليوجه بندقيته القناصة، نحو أحد العناصر التكفيرية، الذى رصدته القوات، عبر «مقربات الرؤية».
أخبرنا الضابط بأن التكفيرى يبدو من تحركاته أنه من عناصر الاستطلاع، التى تتولى رصد حركة القوات فى المنطقة، وتطوق الجبل، ثم إبلاغ باقى أفراد المجموعة المختبئة داخل الكهوف، بأعدادها وسلاحها، حتى يتمكنوا من الهجوم عليهم أو الهرب منهم.

بعدها ساد الصمت والتركيز فى المكان لعدة دقائق، حتى خرجت الرصاصة من بندقية الضابط القناص، الذى صاح، قائلًا: «الله أكبر.. إصابة فى الرأس».
بعدها تحول الصمت إلى مباركات وتهليلات منا ومن الضباط والجنود فرحًا باصطياد العنصر، وعندما سألنا إن كانوا سيأتون بجثته، جاءت الأوامر قاطعة بعدم الترجل أو المداهمة لمكان جثة التكفيرى فى الوقت الحالى، وكان القرار ترك الجثة للغد، حتى يتم التأكد من أماكن وجود التكفيريين، وإن كانوا سيقومون بإخلائه ودفن جثته أم لا. 

قضينا الليلة مع الجنود، وفى ظهيرة اليوم التالى، جاءت الأوامر لقوات المشاه والصاعقة بالتحرك، والتوجه إلى منطقة مقتل التكفيرى، تحت قيادة ضابط برتبة رائد، أخبرنا بأن المهمة تتضمن معرفة هوية التكفيرى، والحصول على عتاده، والتأكد من تصفيته. قبل التحرك، أكد الضابط وعورة المكان، وطلب منا، نحن الإعلاميين، الانتظار فى منطقة الكمين، خاصة أن قطع هذه المسافة فى الجبل صعودًا وهبوطًا، وذهابًا وعودة، تحتاج نحو ٥ ساعات، مع قطع ٢٠ كيلومترًا سيرًا على الأقدام. وفى ظل إصرارنا على المشاركة، ومصاحبة القوات، وتصوير ما يحدث، وافق قائد المجموعة، ثم جمعنا مع المقاتلين، وتعالت الأصوات بدعاء واحد، ردده الجميع: «اللهم إنا نستودعك أهلنا وأموالنا وأبناءنا».

بعد الدعاء، طلب منا القائد الحضور بشكل دائم فى قلب المجموعة، لحمايتنا وتأميننا من أى هجوم مفاجئ أو قناص مختبئ، ثم ترجلنا جميعًا جهة الشمال الشرقى، فى اتجاه قمة الجبل، حيث قتل التكفيرى.

بعد ٣ ساعات من السير وسط الوديان والجبال والصخور الحادة، التى تشبه السكاكين المسنونة، وصلنا إلى قمة الجبل، وفجأة انزلقت قدم أحد زملائنا المصورين على الصخور الحادة، وسقط أرضًا بشكل عنيف، ثم أصيب بجرح بالغ فى يده، وتطوع أحد الجنود بربط الجرح، ومنحه كل الماء الذى يحمله لغسل الدماء، قبل أن نستكمل المسيرة من جديد.
ووسط هذه المشاق، كانت الابتسامات والأحاديث الدائرة بين الجنود والضباط، تهون علينا الوقت والجهد، حتى وصلنا إلى المنطقة المنشودة، لنجد بعض قوات التأمين، التى تحاصر الجبل، قد سبقتنا إلى المكان لمساندتنا.

فى النقطة المقصودة، لم نجد جثة التكفيرى المقتول، ودلنا الأثر على أنه زحف لمسافة كيلو ونصف الكيلو على الأقل بعد إصابته، نحو أسفل الجبل، قبل أن يلقى حتفه، وتجف جثته بفعل حرارة الشمس، وشدة الهواء، ما جعلها تأخذ وضعًا متصلبًا، تغرقه الدماء الجافة.

كانت الجثة لرجل تخطى الخمسين من عمره، طويل القامة، قوى البنية، يملك لحية صغيرة بيضاء، ويرتدى سترة ثقيلة وجلبابًا طويلًا، وعثرت القوات فى يده على بندقية قناص، و٦ خزن ذخيرة، ونظارة رؤية حديثة الطراز، وجهازى هاتف محمول، وسديرى واقٍ من الرصاص، وجركن مياه.

وبفحص ملابسه، عثر الجنود على محفظة تحوى مجموعة من الأوراق الخاصة، وأوراقًا أخرى، تحوى أفكارًا تكفيرية، وتتضمن نصائح مكتوبة بخط اليد، تتحدث عن الصبر والتحمل، والثبات فى مواجهة العدو.

بعد تجميع الأحراز، تحركنا من جديد فى اتجاه العودة، فى رحلة استغرقت هذه المرة ساعتين ونصف الساعة، عانينا فيها من تمزق أحذيتنا، نظرًا لصلابة الصخور فى المنطقة، إلى أن وصلنا فى النهاية إلى موقع الكمين، ومنه إلى الكتيبة التى انطلقنا منها فى اليوم السابق.

الدستور تشارك فى تفكيك عبوة ناسفة تحمل 50 كيلو «T.N.T»
فى العاشرة صباحًا، وردت معلومات من قوات الاستطلاع تفيد بوجود عبوة ناسفة، زرعها التكفيريون على أحد الطرق، الذى تمر فيه دوريات القوات المسلحة، فى طريقها لتأمين مناطق وسط سيناء.
فور تلقى المعلومة، اجتمع ضابط برتبة مقدم، مع مجموعة من المجندين العاملين فى سلاح المهندسين العسكريين، والمدربين على التعامل مع هذه العبوات، حملوا بعدها معداتهم وأجهزتهم، فى سيارة مدرعة، سبقتها إلى الطريق سيارة أخرى تتولى تأمينهم من أى هجوم مفاجئ.

وبعد تحرك الموكب الذى سمح لنا القادة بالاشتراك فيه، لمدة نصف ساعة، وصلنا إلى النقطة المنشودة، فطلب منا الضابط المسئول الرجوع إلى الخلف، وبدأت القوات فى النزول، مع توزيع قوات التأمين، لرصد أى فخ محتمل قد ينصبه الإرهابيون، للهجوم على القوات.

وفى الوقت الذى تحركت فيه قوات المهندسين لتفكيك العبوة، تولت قوات التأمين تمشيط المنطقة، من أجل التأكد من عدم اتصال العبوة الناسفة بأى عبوات أخرى غير مرئية.
بعد إلقاء نظرة مبدئية، أبلغ المقدم مساعديه بأن العبوة المدفونة فى المنطقة من نوعية «مسطرة»، وهو نوع من العبوات يتكون من ماسورة بلاستيكية، بطول متر ونصف المتر، بداخلها قطعتان من الخشب بطول الماسورة، وملفوف حولها سلك من الألومنيوم بشكل دائرى، وتتصل بسلك كهربى، مرتبط ببرميل يمتلئ عن آخره بمادة «تى إن تى» شديدة الانفجار.

وشرح لنا أن هذه النوعية من العبوات تكون مدفونة بالكامل، مع كل ما يتصل بها، تحت الأرض، ومغطاة بالرمال، حتى لا ترصدها القوات المارة فى المنطقة، وبمجرد عبور أول سيارة من القوات فإنها تضغط على الماسورة البلاستيكية، التى تنكسر فتتلامس الأسلاك الألومنيوم ببعضها، وتكمل دائرة كهربية، تؤدى لحدوث الانفجار.
بعد تحديد نوع العبوة، تولى الضابط المسئول فصل الماسورة عن السلك، وبدأ فى تتبع مساره، حتى وصل إلى حفرة البرميل، الذى يحوى نحو ٥٠ كيلوجرامًا من المادة المتفجرة.

بعدها بدأ المقدم فى فتح البرميل، وقطع أجزاء منه، لتحديد نوع وكمية المادة المتفجرة، التى سيتم التعامل معها، ثم استبدل جزءًا من هذه المادة بـ«قالب تفجيرى»، أوصله بسلك كهربى طويل، يمتد على مسافة تصل إلى نحو نصف كيلومتر، مع ربطه بجهاز تفجير جديد.
وفور ضغط زر التفجير انفجر البرميل فى مشهد ضخم، تطايرت فيه شظاياه وكمية من الرمال والحصى فى كل اتجاه، ثم أصدر قراره بعودة الجميع إلى السيارات من جديد، للتوجه إلى الكتيبة، بعد أن أصبح الطريق ممهدًا من جديد لعبور الدوريات العسكرية لتأمين المنطقة.

لقراءة الموضع عبر cross media
  رسالة سيناء الثانية