رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ليلى دوس والاهتمام بالأسر الفقيرة


وُلدت ليلى دوس فى محافظة أسيوط فى يوليو ١٩١٧، وكان جدها لوالدتها، حبيب شنودة هو عمدة أسيوط، وكان شديد الثراء. وكان والدها توفيق باشا دوس، تخرج فى كلية الحقوق وفتح مكتبًا مع اثنين من أشقائه فى منطقة الفجالة بالقاهرة عام ١٨٩٣م، ثم عاد إلى أسيوط ليعمل بمكتب سينوت حنا باشا المحامى المشهور فى ذلك الوقت، وبعدها عاد إلى القاهرة مرة أخرى ليمارس مهنة المحاماة بها، وتزوج فى سن ٢٥ عامًا وأنجب عدة أبناء وبنات، وكان من بينهم ليلى، كان والدها سياسيًا مشهورًا وقياديًا فى حزب الوفد، وشريك سعد زغلول وعضو لجنة الثلاثين التى وضعت دستور ١٩٢٣، ووزير الزراعة الذى استقال اعتراضًا على سياسات السراى.
التحقت ليلى بمدرسة «القلب المقدس» لفترة دامت ثلاث سنوات، وانتقلت إلى كلية البنات عام ١٩٣٨. كان والدها قد رفض مواصلتها دراستها الجامعية، وكان رده القاطع «لا جامعة للبنات»!!، لكن المثل الأعلى فى الحياة للفتاة ليلى دوس كان رفاعة الطهطاوى، محمد عبده، قاسم أمين، لطفى السيد، هدى شعراوى، أمينة السعيد، سيزا نبراوى، خاصة أنها كات قد قرأت أن «كلوت بك» قد أنشأ عام ١٨٣٧ مدرسة للقابلات (أى المولدات)، كما كانت تعرف أن دستور ١٩٢٣ نص على تعليم الفتيات، وفى عام ١٩٢٩ حصلت النساء على حق التعليم مثل الرجال، وتأسست منظمة نسائية وهى لجنة الوفد للنساء المركزية، وكانت صفية زغلول، زوجة الزعيم سعد زغلول وهدى شعراوى، هما أول من بدأتا فى تكوين جمعيات نسائية للعمل الاجتماعى، فتأسست جمعية «المرأة الجديدة» على يد هداية بركات لتدريب الممرضات وتعليم البنات أشغال الإبرة، ومن بعدها جاءت مبادرة محمد على، التى تبنتها أميرات العائلة المالكة وقامت الجمعية ببناء وإدارة مستشفيات فى كل أنحاء مصر، وكان كل ذلك ماثلًا أمام عينى ليلى دوس. بدأت فكرة جمعية تحسين الصحة عندما علمت ليلى دوس بعد تخرجها من المرحلة الثانوية عام ١٩٣٣ أن هناك شكوى من الدكتور محمود أباظة، رئيس قسم الأمراض الصدرية بمستشفى الصدر التابع للدولة، وكيف أن مرضى السل المُعدمين يصرون رغم حالتهم الصحية المتدهورة، على أن يتركوا المستشفى ولا يكملوا العلاج للسعى وراء توفير لقمة العيش لأسرهم مما يؤدى إلى وفاتهم، وتحدث د. أباظة فى هذه المشكلة مع السيدة إيفى محمود، وهى سيدة إنجليزية كانت متزوجة من مدير الهلال الأحمر المصرى فى ذلك الوقت. وهنا وجدت ليلى ضالتها المنشودة، والعمل الذى ستكرس حياتها فيما بعد من أجله. فقامت بالاتصال بعدد من صديقاتها فى الدراسة وعلى المستوى العائلى، وهن عايدة علوبة وشريفة لطفى ونعمة برزى، وأيضًا اتصلت بالسيدة إيفى محمود وحددن موعدًا واقتُرح عليهن فى البداية زيارة عدد من أسر مرضى السل ليرين على الطبيعة أحوالهم المعيشية المتردية، فكانت المشاهد تصيب بالغثيان بسبب مشهد الفقر المدقع وحجرات بلا إضاءة تترعرع فيها الرطوبة ومعيشة أبناء هؤلاء المرضى معهم فى نفس المكان مما يعرضهم لخطر العدوى، ومن هذا المنطلق كان التصميم على تكوين جمعية نسائية لتحسين الصحة. وكان للجمعية –التى ترأستها ليلى دوس– دور بارز خلال فترات الحروب، أثناء العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦ وحربى ١٩٦٧ و١٩٧٣ من ذهاب إلى الأقاليم والتبرع بملابس وافتتاح مراكز خياطة لكسوة المحاربين. كما كافحت فى تعاون مشترك مع جمعية «المبرة» ضد مرض الكوليرا فى أربعينيات القرن العشرين.
لم تنس ليلى دوس حلمها القديم فى مواصلة التعليم الجامعى، فقامت بعمل معادلة لشهادة الثانوية العامة وحصلت عليها والتحقت بالجامعة الأمريكية بالقاهرة بكلية الآداب وحصلت على الماجستير فى الأدب المقارن عام ١٩٨١ عن عمر يناهز ٦٤ عامًا. وفى عام ٢٠١٥ توفيت ليلى دوس عن عمر ٩٨ عامًا وعاصرت تاريخ الحركة النسائية، بدءًا من ثورة ١٩١٩ حتى ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١، حيث شاركت فيها بميدان التحرير من فوق كرسى متحرك.
هل يجود الزمن بمثل هذه الشخصيات التى كرست حياتها لتحقيق رسالة لأنماط من البشر تعيش حياة يملؤها المرض والفقر والجهل؟، ولكن وضع الله فى قلب هذه السيدة – التى لم تتزوج وهى من أسرة ميسورة الحال وتكرست لخدمة البشرية – رأفة ورحمة لتحس بآلام الآخرين وتحاول مشاركتهم فى آلامهم رغم أرستقراطية الحياة التى نشأت عليها.