رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: حادث موت فى قرية اسمها برطباط


وأنا أدور حول نفسى، لا أريد الكتابة عن شيماء ابنة شقيقتى التى ماتت فى الثلاثين من عمرها ودفنتها وعدتُ لتوى من قريتى لأكتب مقالى الأسبوعى، أنا حزين وليس عيبًا أن يعرف القارئ- إن كان هناك قارئ- أننى حزين، تتصارع ذكرياتى مع طبيعة عملى ككاتب ينتظر منه الناس شيئًا مفيدًا بعيدًا عن همومه العائلية ومشكلات قريته الصغيرة التى لا يعرفها أحد، ولكن كيف لى أن أدفن حياتى لأكتب عن غيرها؟ تتقاذفنى أمواج عاتية تأخذنى من قاع البحر إلى سطحه الواسع، الذى كانت تملأه يومًا شقيقتى الكبرى «ليلى»، قبل أن يخطفها الموت فى شبابها لتترك خلفها وجعًا ودراما متكاملة فى صورة طفلتين توأم فى الثالثة من عمرهما «شيماء وأسماء».

كان الموت يطرق بابى لأول مرة بقوة وغشم وجبروت، ويمزق قلبى الصغير هنا فى القاهرة وشوارعها الواسعة، كنتُ ما زلت طالبًا مغتربًا جاء من قرية نائية ليدرس بجامعة القاهرة، وكفاكم الله شر مصيبة المغترب يأتيه خبر موت عزيز لديه، وكان موت «ليلى» حدثًا جللًا، أحزن قرية بكاملها وأقعد والدى مكانه فلم يتحرك حتى مماته، لكن الطفلتين كانتا خير معين لى ولأشقائى، فلا وقت للحزن والقهر، وهناك زهرتان صغيرتان كُتب عليهما اليتم مبكرًا، ورعايتهما تستوجب يقظة وترتيبًا يضمن لهما حياة كريمة تريح «ليلى» فى قبرها، وتعهدتُ بهما مع أخوالهما حتى كبرتا، فظهرت عليهما أعراض صحية كان مصدرها ضعف فى عضلة القلب، وهى أعراض تصيب معظم التوائم، واحتاجت أسماء تركيب دعامات فى مركز القلب بإمبابة، بينما أكملت شيماء علاجها دون الحاجة إلى إجراء عمليات، لكنها لم تصمد بعد الزواج والإنجاب، فحدث انسداد فى الشريان تطلب جراحة فى القلب الذى لم يحتمل طويلًا فتوقف عن النبض، وتركنا فى الحزن مع ولديها الصغيرين، وتلك قصص وحكايات تتكرر كل يوم بلا شك فى طول البلاد وعرضها وفق مقادير الخالق سبحانه وتعالى، لكن القلوب واهنة وضعيفة والحزن غلاب فى أحيان كثيرة، ولا نتخفف من ثقله على أرواحنا إلا إذا تحدثنا وشكونا وصرخنا بآهات مكتومة، نداريها كثيرًا ونهرب من وقعها طويلًا، ونخجل من التعبير عنها دائمًا، وها أنا تحدثت إليكم بما لا يعنيكم، فاستمع بعضكم وأشاح البعض الآخر، لكن القلب ارتاح وأصبح أكثر استعدادًا للتعامل مع الهموم المنتظرة، والتى أسأل الله الرحمن الرحيم أن يخفف وطأتها علينا وعليك سيدى القارئ، فلا شك أن لديك همومًا قد تكون أكبر بكثير من هذا الكلام الفارغ، لكنك لن تخسر إن أنت أنصت لتسمع شكوى وأنينًا من صديق أو جار أو حبيب أو قريب، فذلك ثواب عظيم تؤجر عليه بقدر سعة الصدر والطبطبة على المكلوم والمحزون، فالحياة تقسو كثيرًا ولولا رحابة الصدور ما احتملناها، وقد كانت هموم «جحا» ثقيلة عليه فحملها وذهب بها إلى السوق فاكتشف أنها خفيفة وهينة وتافهة إذا ما قورنت بحجم ما رأى وسمع من هموم تحنى ظهور الناس وتكسر قلوبهم، والناس فى قريتى «برطباط» بمحافظة المنيا همومهم ثقيلة، وفى اللحظة التى كنتُ أحمل فيها أحزان رحيل «شيماء» فى صدرى، كانت أمًا تصرخ غرق طفلها فى بلاعة كسرها لودر عملاق تابع للمجلس المحلى، وكان الحادث مفجعًا لأهل القرية، فالطفل البالغ من العمر ست سنوات كان عائدًا للبيت بصحبة شقيقه الذى يقاربه فى العمر، فسقطا سويًا ونجحت الأم فى إنقاذ أحدهما، وهاتفنى الصديق محمود يوسف «صوت الغلابة فى برطباط» وحكى القصة وطالبنى مع زملائى فى مهنة الصحافة بتحمل مسئولية غرق الطفل البرىء إن لم نطالب بمعاقبة موظفى المجلس المحلى على إهمالهم، وتعهدتُ له بما أستطيع إليه سبيلًا، وها قد فعلتُ، فالهموم كثيرة والفقر يجلد ظهور عشرات من أهلى وعشيرتى وجيران طفولتى، وكنتُ أهرب منهم خجلًا كلما ذهبت للقرية فى زيارة خاطفة للأهل أو لأداء واجب عزاء، أهرب لعجزى التام عن الحل وتخفيف الهموم ورد الجميل لرائحة الأرض وصحبة العمر، فكيف لى أن أنجح فى توفير معاش لأمهات تُربى أيتامًا، أو عجوز فارقها الأولاد والأهل فارتكنتْ إلى الله تطلب منه العون والمساعدة وظنتْ أننى العون وأننى المساعدة بحكم عملى «صحفى قد الدنيا» فخذلتهن، لكننى هذه المرة «مارس ٢٠١٨» انشرح صدرى وتهللتْ أساريرى عندما حكيت لى ابنة عمى عن «معاش التكافل والكرامة» الذى وصل للقرية وأصبح واقعًا يسمح للمحتاجات والفقيرات بحمل كارت مغناطيسى «زى بتاع رجال الأعمال» يصرفن به معاشًا شهريًا يصل لـ٤٠٠ جنيه، ويتكفل بمصروف ثابت لكل طالب يتعلم فى المدارس ولا يجد عائلًا، وربما كانت تلك البشارة هى التى خففت همومًا قديمة وجعلتنى أعود وفى قلبى نور رغم الحزن.