رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المبدعون الذين يتركون الحيرة


أحيانًا غير قليلة أفكر طويلًا لماذا أنهى الشاعر الشاب أحمد عبيدة حياته بالانتحار عام ١٩٧٤؟ أو لم توقفت عن الغناء واختفت المطربة اللامعة عفاف راضى، التى اشتهرت فى نهاية الستينيات وبداية السبعينيات؟ وكانت لها أغنيات بديعة أذكر منها «كله فى الموانى» وغيرها؟

وكثيرًا ما أفكر فى نموذج آخر أوضح فى الأدب، لأنه يجسد التوقف والاستمرار معًا، أعنى الأديب عادل كامل ونجيب محفوظ، اللذين بدآ الطريق معًا، وكان عادل كامل فى مطلع الرحلة أوفر حظًا من التفجر واتّقاد الموهبة حين كتب «مليم الأكبر»، و«ملك من شعاع»، وخلت الروايتان من النزعة التقليدية، بينما بدأ نجيب محفوظ بالتقليد والسير على درب الرواية التاريخية على نمط «والتر سكوت». فى حينه تفجرت موهبة عادل كامل بقوة، ثم توقف تمامًا.
وعلل نجيب محفوظ ذلك بأن صديقه وجد أن الأدب غير مجزٍ، فاتجه إلى المحاماة وأتعابها الوفيرة. والآن خُذ نموذجًا آخر لمطربة ذات صوت لا يتكرر هى حورية حسن التى غنت من ألحان الموجى «من حبى فيك يا جارى» وبضع أغنيات أخرى قليلة واختفت. فى القصة القصيرة كان ثمة أديب نادر المثال عميق الموهبة هو أحمد هاشم الشريف، صاحب القصة الشهيرة «اللصوص»، وهو فى اعتقادى أكثر أبناء جيل الستينيات موهبة على الإطلاق، حتى إن الناقد فؤاد دوارة حين سأل نجيب محفوظ عن ذلك الجيل لم يذكر سوى اسم أحمد هاشم الشريف. أصدر الشريف مجموعته «وجه المدينة»، ومجموعة أخرى، وتوقف. ولا شك أن الانتحار غير التوقف والتعثر، والتوقف غير السكوت بعد الشهرة، فلكل حالة من تلك قانونها الخاص أو ظروفها، كما يقولون. لكن المؤكد أن القاسم المشترك هو الهروب من وطأة الإبداع.
ذلك أن العملية الإبداعية تخلق توترًا شديدًا وضغوطًا نفسية حادة بسبب التركيز والجهد العصبى، مما يجعل المبدع يدفع ثمن الإبداع من لحمه الحى، لهذا أصيب عدد من كبار الأدباء بأمراض عقلية بعد أن فرغوا من الأعمال الكبيرة، كما حدث مع ستندال، وبودلير، وجوجول، وغيرهم. وكان ألبير كامو يعانى قلقًا مزمنًا وذعرًا من الأماكن الفسيحة. هيمنجواى كان يكتب كل صباح لمدة ساعتين، القلم فى يد والكأس فى اليد الأخرى، وكان يتناول يوميًا ١٧ كأسًا من الخمر وينهى يومه بزجاجة كاملة، وانتهى الأمر به إلى الانتحار. أيضًا الرسام فان جوخ، والموسيقار العالمى شتراوس، والموسيقار رحمانينوف، الذى أهدى أجمل مقطوعاته الموسيقية إلى طبيبه المعالج.
وبعض الصفحات التى كتبها عباس العقاد تدل على حالة اكتئاب واضحة، بينما سقطت مى زيادة صريعة المجهود الإبداعى المنهك، وكذلك عبدالرحمن شكرى، وصلاح عبدالصبور، بل إن تحليل شخصية عمر الحمزاوى فى رواية الشحاذ يؤكد تعرض نجيب محفوظ لحالة اكتئاب كتلك التى وصفها بدقة فى روايته. والمؤكد أن الفن والإبداع يحتاجان، إلى جانب الموهبة، شيئًا آخر: القدرة على القتال والاستمرار، والقدرة على الإيمان بدور الفن، وعندما تتناقص تلك القدرة يتساقط البعض فى الطريق ويتوقف، مثل عفاف راضى، بل وينتحر البعض مثل أحمد عبيدة. والذين يفتقدون الإيمان بدور الأدب لا يكون سؤالهم: «لماذا توقفنا؟»، بل «لماذا نستمر؟ ولم نكتب؟ وهل للكتابة جدوى أصلًا؟».
وبهذه النظرة هجر الشاعر رامبو الشعر نهائيًا، بعد كتابه الثانى وهو فى التاسعة عشرة، وبالنظرة التى لا ترى جدوى من الكتابة قال «جاك فاشيه» إن الفن ببساطة «حماقة»، قالها وانتحر. ويكرر «بيدرو كاردوبا» المعنى نفسه بعبارة أخرى قائلا: «أعتقد أن الفن قد يكون مجرد بخار»! فقدان الثقة فى أهمية الكتابة قد يقود لوضع كالذى اختاره «جيرومى سالنجر»، الذى ترك أربعة كتب مهمة، ثم لزم الصمت التام لأكثر من ثلاثين عامًا، دون أن يكتب حرفًا واحدًا، مثله مثل الكاتب الأرجنتينى «أنريكه بانش»، الذى نشر عملًا رائعًا هو «صندوق الاقتراع»، ثم أحاط نفسه بالصمت والغموض لخمسة وثلاثين عامًا.
هناك أسباب كثيرة وراء الحيرة، التى يتركها لنا المبدعون خلفهم، حينما تتعطل مسيرتهم. من هذه الأسباب «نضوب القدرة الإبداعية» لدى الكاتب. بهذا الصدد يعترف «جوردى لوبيت» بأنه هجر الكتابة الإبداعية منذ وقت طويل، لأنه أمسى يفتقر إلى الخيال الخصب. لكن كيف ينضب ينبوع الفن لدى الكاتب؟ لأى سبب؟ ومتى؟، ومتى ينسحب الفنان لأن قدراته القتالية لا تكفى لخوض المعركة؟ وكيف؟. أسئلة كثيرة وحيرة تتركها مسيرة الفنانين المبدعين الذين يلمعون كالشهب ويسقطون بسرعة، وكلها أسئلة قد لا يسهل العثور على إجاباتها، لأن لكل حالة قانونها الخاص تقريبًا.