رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فراشات تموت فى يناير

إيهاب القسطاوي
إيهاب القسطاوي

ظل يتأملها بترقب شديد على مدار ثمانية عشر يومًا هى كل ما قضاة بمدينة الملائكة، قبل أن ينقض عليها الغربان من كل صوب وحدب، ويجردوها من معنى الحلم، وينصبوا أعواد مشانقهم للأحلام التى ألقت بظلالها على الكون، وكأنها حُلم نابض فى السماء، أو مجد يحاور العار بعمق، زهرة مستيقظة فى عين الشمس، كانت سارة تلك الفتاة التى لم تتجاوز عقدها الأول إلا بسنوات بخيلة، ترتدى عصبة سوداء على رأسها وبلوزة بيضاء متسخة و«بنطلون جينز ممزق» من الأطراف، كانت سمراء البشرة كأنها عجنت من طمى النيل وامتزجت بأحزانه، وكانت عيناها اللامعتان البراقتان تبدوان من الوهلة الأولى لكل من يراهما كأنهما جب عميق يختزل حزنًا بحجم وطن، لكنهما لم يخلوان على الإطلاق من نظرة أمل قد تبدو بعيدة ولكنها أكيدة، كان يتأملها وهو يسند ظهره المنقوش ببعض ندوب طلقات الخرطوش على أحد أعمدة الإنارة العارية، ويحمل بيده جريدته وباليد الأخرى كوبًا من القهوة فى عبوة بلاستيكية بيضاء، كان يقتفى أثرها كفراشة حالمة تمشط أجواء الميدان، تنثر عبيرها من الدفء وبعضًا من رائحة الوطن، فقد كان الميدان لها وطنًا، فاستقرت على أرصفته جنة موعودة وتدفأت بأنفاس الثوار، واستأنست بصوت طلقات أصواتنا بالهتاف الذى اهتزت لها جنبات الميدان، واحتمت بالحشود الغفيرة القادمة إلى الميدان من مختلف جهاته، فكان هتافها البكر يمتزج مع هتافاتنا: «مرحبًا مرحبًا بالثوار»، حفظت المتاريس وتنفست قنابل الدخان وتلطخ حلمها بالحرية برائحة الدم وأغانى الشيخ إمام، وتذوقت حلاوة الميدان والرفاق والخيام، كانت تمد يداها الضئيلتان ليدى فيصاب جسدى بقشعريرة لتصطحبنى إلى الميدان، متقمصة دور المرشد والدليل، وتثب بخطوتها البريئة كنسمة ريح فى الميدان كمن يدخل بيته الشخصى، فقد كانت تحفظ عن ظهر قلب كل حدث، وكلّ تفصيلة صغيرة وقعت فى قلب الميدان، رعدت عيناه بفيض من الدموع، هو يتذكر جيدًا هذه الأيام القليلة التى أحس خلالها بقوة لم يشعر بها من قبل، لكنه انتبه أنها فى ومضة عين رحلت مع الراحلين لأن عمر الجناح قصير».