رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سامر النجع

إيهاب مصطفي
إيهاب مصطفي

«هات الغلاى وصب الشاى
اقعد يا أبو خاله اتحكى معاى
إن كنت تعوز نفسين جوزة
إحداى وشايلها للعوزة
واللى تشيله للعوزة
أهو ينفع فى اليوم الجاى
هات الغلاى وصب الشاى
اقعد يا أبو خاله اتحكى معاى»
الصوت ينساب لينًا ومنغومًا أمام الميكروفون، يحاوط جسم الابنة ليمرجحها فتتلوى لتهيج العقول أكثر، البنت تصنع حالة من السكر تمشى فى عقول الخلق المتكدسين أمام المسرح الخشبى الكبير، المسرح امتد على مساحة تمثل ثلث الباحة المخصصة للأفراح، باقى المساحة غرست فيها العروق الخشبية من الجانبين فبدت أشبه بالرواق، من فوق العروق امتدت الحبال التى تعلقت بها الأنوار كأشباح نيرة، المسرح بدا باهرًا مليئًا بالنور، من بعيد تبدو اللمبات كجروح طولية مقطوعة فى جسم الظلام المعتم، من حولها تنمو هالة نورانية يأكلها الظلام كلما تباعدت عن جسم اللمبة الأم، الكل يتجمهرون فى المساحة التى أمام المسرح، الرجال لا يقدرون على ضبط أجسامهم التى تهزها الموسيقى، يتمايلون فى محاولة للتوافق مع حركات جسم سعاد اللدن، المعطاء والمتماوج بحرية هيأها تكوين الجسد، وبالرغم من ليونة جسمها - والذى يبدو أقرب لأجسام الرومانيات- المصقول بعناية كما يحب أن يصفها جويد، لكنها فى نظره لم تكن راقصة، فى الحقيقة كان عرى الجزء العلوى من صدرها يشكل لها عامل جذب مهمًا، ومحطًا للأنظار التى تود الارتواء، لكن تمايلها وحركاتها لا تنسجم مع حرفية الرقص، هى تعرض أجزاء جسدها قطعة قطعة، دون القدرة على ترتيب كل تلك القطع بتحكم عقلى يمنح لكل جزء دوره الحقيقى، وكأن كل شىء فيها له القدرة على تصريف نفسه بنفسه، هناك عصيان خفيف يفرضه أحد الأجزاء، يكبر-العصيان- كلما حاولَت جمع أكبر عدد من أجزائها فى الحركة الواحدة، ترى مؤخرتها تميل، والصدر يهبط من عليائه فيكاد يندلق دون توافق واضح، وهذا ما كون لديه فى النهاية حركات مفهومة ومعروفة مسبقًا، حركات متتالية كأنها على وتيرة واحدة، من السهل عليه أن يتوقع حركتها القادمة، حيث لا إبداع فى استخدام كل مكونات الجسد، سعاد تدور دائمًا فى مساحات واسعة لتلهى العين الملاحظة، تكشف الساق وتسحب بدلة رقصها إلى أعلى فيظهر جمال الفخذ الفتان، تطير العقول فى رحاب الجمال، تتوالى تنهيداتهم ويضبطون عمائمهم ويبرمون شوارب فوق أفواه بللها الريق، هم لا يعرفون شيئًا عن الرقص سوى العرى المباح والمتاح، حتى جويد كان يتغاضى عن ذلك ويقنع نفسه أنها راقصة، إنه هنا كالباقين ممن يحبون رؤيتها كراقصة ليس أكثر من ذلك، سلمان الهائم بها كأنه شيخ أذابه الوجد فى حضرة الأولياء، يتمايل مغلقًا عينيه ويَسكَر سُكر الجمال، يخرج التنهيدات ساخنة مملوءة بالوجع، تدور سعاد فيصرخ سلمان، يدقق فى فستانها وحين يظهر الفخذ يرتمى على الأرض هائمًا وسائحًا ومحبًا، سعاد الآن أمامهم، ينظرون ويدققون ليكون استدعاؤها- فى الحلم- سهلًا وبغير مجهود، جويد لم يحاول مناقشة أمر رقص سعاد إلا مع حامد، فهو المتقبل الوحيد والفاهم لمعنى الرقص الحقيقى، دون النظر إلى محتوى الجسد، كان يعرف تمامًا أن سعاد هى مفرج الهموم التى تكدست فى صدورهم، تلك الهموم التى تشكلت بصور مغايرة فى نفوسهم، ومنحتهم سنًا أكبر من سنهم الحقيقية، وتأتى سعاد فيفرحون، هى سعاد القادرة على هزيمة همهم اليومى، تترك لهم النشوة فيطيرون إلى عوالم من مسرة، هى الآن تدب بحملها على الأرضية، يهتز المسرح ويرتج الجسم المحمل بالعيون، رجة الجسم تمنح الخلق سببًا لإطلاق الآهات وتسبيح الخالق العظيم على الصنع العظيم، الأنظار تتوجه لبدلة الرقص المفتوحة حتى الركبة، العيون تحاول التسلل والصعود لكشف المخبوء، لكن سعاد الفاهمة تعطى بحذر، فلا تمنع كلية ولا تمنح كلية، عند إحساسها أنهم يحتاجون أكثر، تميل بدورة كاملة لتنثنى ويظهر مفرق ثدييها واضحًا وغائرًا كشق جميل، تنتظر قليلًا لتمنح رؤية جيدة للناظرين، وبعضًا من الرؤية لضعاف البصر والواقفين فى الأماكن البعيدة، والتى حالت الأجسام دون المرور الجيد لنظراتهم، الهواء يتحد مع الليل ويحرك اللمبات ليزحزح النور فوق الوجوه المنبسطة والضاحكة.
- «هات الغلاى وصب الشاى
اقعد يا أبو خاله اتحكى معاى
أؤمر واتأمر على كيفك
إنت اللى موجب وأنا ضيفك
متقولى بس إيه شوفك
ف الونسة والجو مصفاى
هات الغلاى وصب الشاى
اقعد يا أبو خاله اتحكى معاى»
الآهات تنطلق كهزيم رعد، أبوسعاد يتجاوب مع الأصوات فيمنح الجميع صوتًا مرسلًا فائق القدرة والعطاء، يضبط اللحن جيدًا، يُقرِّب الميكروفون ويبعده، يخفض النغمة ويرفعها، فيعطى الصوت أبعادًا أخرى، يتفنن فى التنقل بين طبقات صوته بسلاسة، السامعون يدندنون ويروحون مع روعة الجسد الذى يتمايل إلى آفاق أرحب وأوسع من المحبة العظيمة، كل واحد فيهم يتمنى أن تكون سعاد زائرته فى الحلم، يغمضون الأعين ويتخيلون. جويد فقط شرد بعيدًا، نسى الصوت ونسى الجسد المعطاء، وراح الشيخ يتجسم أمامه فى الفراغ الوسيع، ذلك الشيخ الذى نجح فى خلق مساحة كبيرة فى تفكيره، هل يمكن أن يكون كلامه حقيقيًا، ولم لا؟!.
كان جويد يروح ويجىء، والشيخ يكبر ويتعاظم فى الفراغ، تتسع الأسئلة بحجم العالم، لا بد أنه شيخ أصابه الخرف ولا يعى ما يقول، لكنه ناداه باسمه، هز رأسه نفيًا، هو غير قادر على تصديقه، بخلاف معرفته الاسم فلم ير منه ما يجبره على تصديقه، ثم إن الكبير قبل الصغير فى النجع يعرف اسمه، إذن فمعرفته لاسمه واسم سلمان ليس بمعجزة، ربما يكون هنا منذ وقت طويل وسمع البلم وهو يناديهم بأسمائهم، صحيح أنه لم ير منه أيضًا ما يجعله لا يصدقه، لكن الإنسان بطبعه عدو ما يجهل، إذن فهو يمشى فى الطريق الصحيح، لا يمكن أن يصدقه، ولا ينبغى عليه أن يفكر أن الأمر حقيقى فعلًا، وجدير باهتمامه إلى هذا الحد، ما أخافه هو قول حامد بأنه لم يره، لكن حامد ربما كان مشغولًا أو أنه لم يركز حدقتى عينيه باتجاه صحيح ناحية الشيخ، نفض الموضوع تمامًا عن دماغه، ونجح تمامًا وهو يبصر العمدة «الأدهم» واقفًا، ومشيرًا إلى انتهاء وصلة الرقص.
..........
* فصل من رواية "مقام الشيخ أمين".