رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سينما الاستشراف أو سينما المستشرقين الجدد


بما أن النقاد يسكّون عادة مصطلحات نقدية لتصنيف وتوصيف الأعمال الإبداعية، بعضها قد يجانبه الصواب والبعض الآخر لا.. كمصطلح سينما المرأة وسينما المؤلف وسينما المهمشين وأفلام الطريق.. إلخ من المصطلحات النقدية.. فأود الْيَوْمَ سك مصطلح جديد يوصف ويصنف نوعية بعينها من الأفلام.
المصطلح الذى أودّ سكه اتكاء على فيلم المخرجة الأمريكية الإيرانية الأصل شيرين ناشط هو «سينما الاستشراف» أو «سينما المستشرقين الجدد».. ففيلم «البحث عن أم كلثوم»، الذى عرض فى افتتاح مهرجان أسوان الدولى لسينما المرأة فى دورته الثانية، نموذج صارخ لتلك النوعية من الأفلام، التى ترى الشرق بشكل فلكلورى أسطورى أقرب لحكايات ألف ليلة وليلة، وتعبر عن ذلك من خلال الملابس والديكور، بل نسج الخيال والتصور الخاص جدا عن الشرق وثقافته وخصوصيته ومن ثم شخوصه.. فمن ظهر فى الفيلم من المجاميع مثلا ظهروا وكأنهم صور ملونة رأيناها هذه المرة بالألوان الطبيعية ومن قبل فى صور المستشرقين، التى ألفناها واعتدناها بالأبيض والأسود، فالذاكرة الفوتوغرافية للمخرجة وصور المستشرقين ورؤيتهم لشخوص الشرق قابعة فى وجدان المخرجة، وأثرت على رؤيتها وطرحها خلال بحثها عن أم كلثوم، كما تريدها وتريد لها وتتخيلها هى وليس كما هى فى الواقع.. والمدهش فى الأمر جعل المخرجة لسيدة الغناء العربى «تابوه شرقى» وصنما يجب تحطيمه!! أو قيدا لا بد أن ينكسر!! عقدة المخرجة الشخصية تجاه الشرق وكراهيتها له ولبلدها الأم طغتا وأثرتا كثيرا على رؤيتها، وبالتالى كراهيتها لكل ما هو شرقى.. فكانت أم كلثوم ضحيتها!!.
فقد حاولت المخرجة طوال الفيلم البحث عن «أم كلثوم» كما تراها هى.. سيدة سيطرت بالغناء لسنين طويلة على المزاج والعقل الشرقى، ومازالت تسيطر وتأسر القلوب والأفئدة، وذلك شىء تتعامل معه المخرجة على أنه شر وجب تحطيمه وتحطيم تلك الأسطورة والأيقونة لصالح من؟! لا ندرى، اندهاشى هنا ينبع من فكرة مفادها: كيف تصنع فيلما عن شخصية لا تحبها وتعتقد فى النهاية أن النتيجة أو المحصلة ستكون فيلما جميلا؟! فعدم الحب أو الكراهية ينسحب بالضرورة على العمل فيخرج كما خرج فيلم «ناشط» ضعيفا مهلهلا ساذجا.
والرؤية المطروحة فيه- مع كامل الاحترام لها- فيها الكثير من الغلو والتزيد، وبالتالى الكثير من المراهقة والولدنة!!.. الرغبة الأصيلة والأكيدة فى كسر فكرة «التابوه» والرمز والأيقونة عن عمد وبشكل مجانى سيطرت على فكر ورؤية المخرجة.. فجعلت من أم كلثوم عدوًا وصنمًا حطّمته فى نهاية الفيلم.. فينال فيلمها الذى أصرت على تغييره، متحديةً ومحاربةً الرجال، الذين كانوا حولها «فريق عملها» ممن ساعدوها لإنجاز الفيلم، سواء بالتمويل أو المساعدة فى الإخراج.. فتحديها للرجال ورغبتها فى إثبات ذاتها وتحررها من سطوتهم لماذا تدفع أم كلثوم ثمنه؟!!.. فمشاكل المخرجة وتجربتها الشخصية جدًا وأزماتها النفسية والمجتمعية وصراعاتها وتفاصيل حياتها.. أسقطتها كلها بالكامل.. فكانت أم كلثوم هى الضحية وكبش الفداء الذى دفع الثمن بمجانية عجيبة ولا دخل لها فى حقيقة الأمر فى مشاكل المخرجة الوجودية وصراعها الوجودى ضد السلطة وضد الرجل، وبالكثير من المباشرة جاء الفيلم الذى انحازت له المخرجة، فجعلت من أم كلثوم الأيقونة الأسطورة تتحطم وينحشر صوتها ولا يظهر فى أهم حفلاتها وأغانيها «إنت عمرى» وفى حضور الرئيس عبدالناصر!!.
وينتهى الفيلم وأم كلثوم الممثلة «المغربية» تسأل المخرجة قائلة لها: لماذا فعلت بى ذلك؟ ولماذا اخترت لى تلك النهاية المأساوية لتسقطى أسطورتى للأبد؟ فجاء رد صاحبة العمل «لقد مللت منك ومن كونك رمزا وأيقونة لا تهزم»!! فهل ملل المبدع من رمز ما يستوجب بالضرورة تحطيمه وكأنه العدو؟! وكأن مشاكل الكون انتهت جميعها، ولم يتبق لنا إلا أم كلثوم لنحطمها! وكأن السيدة أم كلثوم المرأة البسيطة التى وهبها الخلاق صوتا استثنائيا مثقفا لا بد أن تتحمل ذنوب الملالى وتابوهات الشرق البالية، بل ذنوب أهل مدين!! وهو طرح عجيب وإن ظن البعض أنه حداثى أو تجريبى يجوز للمبدع طرحه والتجريب من خلاله، فأنا أرى هنا اختلالا فى منظومة القيم لدى مبدعة العمل والتى تحقر بفيلمها هذا ليس فقط من شخص أم كلثوم فحسب، بل تحقر من شأن الفن والإبداع فى حد ذاته.
فإن أم كلثوم، شاء من شاء وأبى من أبى، مبدعة من طراز رفيع، عاش فنها ومازال حيا ولن ينحشر صوتها أو يخرس، وإن سيّسه بعض السادة لمآربهم الخاصة.. لقد أرادت سيدة مبدعة تنتمى لثقافة مختلفة أو مغايرة ناضلت طويلا من أجل حقوق النساء فى الشرق تحطيم امرأة مبدعة مثلها!! امرأة عانت أيضا بلا أدنى شك وتكبدت ما تكبدت فى حياتها، التى لم تكن أبدا سهلة، فالمرأة المبدعة هنا بدلا من أن تناصر امرأة مبدعة مثلها.. تعمد إلى تحطيمها!! ظنا منها أنها تابوه، مثلها مثل غيرها من تابوهات الشرق البالية.. تابوه ملته كما ملت غيره من التابوهات!!.