رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل حقًا نعيش زمن هزيمة ثقافية؟


فى حوار مهم مع المثقفة الوطنية النبيلة القاضية «تهانى الجبالى»، على هواء قناة «المحور» أجراه معها الإعلامى البارز د. محمد الباز، استطاعت - من خلال مهارة سياسية وحرفية استخدام مفرداتها اللغوية الخاصة بها- أن تعرض لكل جوانب الحالة السياسية برشاقة، وراعنى استخدامها تعبير أننا نعيش حالة «هزيمة ثقافية»، وإن كان د. جابر عصفور، وزير الثقافة الأسبق، قد اقترب من ذلك المفهوم وشرحه عبر حوار مماثل مع نفس المحاور، وعلى هواء برنامجه الناجح «٩٠ دقيقة».
والغريب أن يكون التوصيف من جانب من كان بيده أمر وشئون العمل الثقافى على أرض المحروسة وبعد ثورتين، ولكن لا يمكن تجاهل محاولات الرجل المستميتة، فى لم شمل قيادات الأجهزة المعنية والمسئولة عن اكتمال طرح مشروع ثقافى قومى متكامل (تربية وتعليم، تعليم عالٍ، شباب ورياضة، أزهر وكنيسة وأوقاف، صحافة وإعلام، ثقافة وآثار وسياحة)، وللأسف واجه الرجل تحديات فى الوقت الذى تكررت فيه دعوات الرئيس السيسى لإصلاح الخطاب الدينى والثقافى والإعلامى، وهى الحالة الوحيدة العاصية لمناشدة وتوجيهات الرئيس، وعليه لملم الرجل أوراقه وغادر موقعه يائسًا، لقد عودتنا أزمنة التوهان الساداتية والمباركية على العمل فى جزر متباعدة بتنافسية مريضة، مهما تسبب ذلك فى تعارض المصالح وتصالح المفاسد، وتباعد الرؤى وضياع أهداف المصلحة العليا للبلاد والعباد.
إنها بالتأكيد حالة ضياع البوصلة، والهزيمة الثقافية التى جعلتنا لا نرفض على قلب رجل واحد التوجه الساداتى المخرب لحالة اللحمة والاندماج الوطنى بين الناس فى وطن واحد، عندما توجس خيفة من قوى اليسار المصرى، وأصحاب القميص الناصرى الأفنديات (كما كان يحلو له وصفهم)، فأطلق عليهم وعلى الوطن جماعات الشر وقبائل التراجع الثقافى والإنسانى، وهيأ لهم فرص الانفلات الاقتصادى، وظهر منهم من أطلق عليهم «القطط السمان» فى عصر الانفتاح الاستهبالى الاستهلاكى المُيسر لأباطرة الفساد سرقة وتوظيف الأموال تحت لافتات وشعارات دينية. نعم، هزيمة ثقافية عندما قبلنا تديين كل مؤسسات الدولة بشعارات زائفة ليسيل لعاب أهالينا الطيبين الذين تصوروها بالفعل أنها من الدين وبأوامر آيات الكتب المقدسة، فدخلوا شركاء فى تجارة تصوروها مع الله العلى القدير، وهى مع حلف تمويل الإرهاب القدير للأسف.
إنها بالتأكيد حالة ضياع البوصلة والهزيمة الثقافية التى جعلتنا لا نرفض على قلب رجل واحد، التوجه المباركى على مدى ٣٠ سنة، وهو الذى قرر عقد صفقة الضمان لحالة الاستقرار الزائفة مع ذات القوى الظلامية، ليأمن شرورهم ولتذهب مصالح الوطن الحقيقية إلى الجحيم، وكأنه لم يكن هذا الرجل الجالس بجوار الرئيس السادات ورصاصات الخسة الإخوانية تخترق رأسه وجسده بعد كل ما منحهم من فرص للانطلاق العبثى المجنون فى كل شوارع وحارات المحروسة، بعد أن وضع يدهم على الجمعيات الأهلية والمدارس والنقابات والنوادى، واختراقهم المؤسسات الدينية، وكأنه لم ير ويعاين بشاعاتهم التاريخية، فقرر أن يكمل الرسالة.
يصف سامح عيد، القيادى الإخوانى السابق، علاقة مبارك بالإخوان فى آخر أحاديثه الصحفية «الجماعة الإرهابية منذ ٢٠٠٥ كان كل تواجد لها فى أى فعاليات يتم بشكل رمزى للغاية، لأنها دائمًا ما كانت تعمل بمبدأ المفاوضات والمساومات مع نظام مبارك، فى أى من الفعاليات التى كانت تنظمها المجموعات العمالية والشبابية، وبعدها تأتى الجماعة الإرهابية لتركب فى الأحداث على أنها المنظم الرئيسى للحدث، وهذا ما حدث من الجماعة فى أحداث يناير، عندما أعلنوا رسميًا عدم مشاركتهم فيها، وكانت هناك اتفاقات تمت بين محمد مهدى عاكف، المرشد العام للإخوان حينها، ونظام مبارك، على عدم المشاركة فى الأحداث، كنوع من المغازلة للنظام وقتها والقبول بالتوريث، وكان كل هدفهم هو بقاء الجماعة الإرهابية فى المشهد على حساب الوطن والمواطنين، بالإضافة إلى أنهم أيضًا كانوا يغازلون ما يسمون شباب الثورة والداعين ليناير على قبولهم المشاركة والدعوات فى المحافظات».
ويضيف «عيد» فى موقع آخر: «لقد بدأ الرئيس مبارك عصره بمصالحة سياسية كبيرة بإخراج السياسيين فى قضايا التحفظ فى البداية، وفى نهاية المفاوضات فقد أصدر القضاء المصرى أحكامًا مخففة فى قضايا الإرهاب، فخرج الآلاف براءة وتم إعدام خمسة فقط، أعضاء المنصة الأربعة ومعهم عبدالسلام فرج، قائد التنظيم، أما مجموعة أسيوط وعلى رأسها عاصم عبدالماجد التى قتلت ١١٧ ما بين مجند وضابط، وصولًا إلى نائب مدير الأمن، فقد أخذت أحكامًا بالمؤبد، فقد راعى القضاء المواءمة السياسية والظروف المضطربة التى حاقت بالبلاد فى الفترة الأخيرة. المسجونون لاقوا معاملة حسنة داخل السجون، فقد قال لى أحدهم إن أحد لواءات الشرطة بنى لهم حوض سباحة فى سجن المزرعة، وتم توفير غرف خاصة لكل عضو، وتم توفير الخلوة الشرعية وزيارات ممتدة لهم، حتى إن العُزاب منهم مثل طارق الزمر تزوج من داخل السجن وأنجب طفلين، وكذلك الباقون، ولم تفسد العلاقة إلا بعد قضية الهروب فى ٨٧ من سجن المزرعة».
وفى الوقت نفسه فقد صنع نظام مبارك علاقة مرنة مع الإخوان، سمحت لهم بدخول البرلمانات المختلفة، بداية بـ٤ مقاعد فى ٨٤ مع حزب الوفد، وانتهاء بـ٨٨ مقعدًا فى ٢٠٠٥، مرورًا بالنقابات والاتحادات الطلابية ونوادى أعضاء هيئة التدريس وصلاة العيد، وغيرها من الأنشطة الممتدة فى طول البلاد وعرضها، بما سمح لهم بالتمدد الكبير الذى واجهناه بعد الثورة، وقد حُصّن منصب المرشد من الاعتقال، وسُمح له بحرية الحركة داخل البلاد وخارجها، وحُفظ مركز الإرشاد فى المنيل من الاقتحام، وأتذكر أننا استقبلنا المرشد التلمسانى فى ٨٦ ومن بعده حامد أبوالنصر، استقبالًا أسطوريًا بمسيرات وممرات من بداية المدينة إلى مكان الاحتفال وأعلام الإخوان مرفوعة، وكان أشبه باستقبال رؤساء جمهورية، وجنازات المرشدين بالتتابع كانت أسطورية يحضر إليها شخصيات عامة من خارج القطر.
ورغم كل تلك المفاسد لم تتم محاكمة النظام عليها.. وفى كوميديا وملهاة سوداء ما زلنا نتذكر أيام محاكمة القرن الأولى التى كنا ننتظر حلقاتها كل يوم فى الصباح الباكر لعلنا نعلم ونعرف باعتبارنا مواطنين أسرار وكواليس زمن ذلك النظام، وإعلانها على الرأى العام، وهو الأمر الذى استدعى حضور الحاكم محاكمته نائمًا قرير العين راضيًا ليصحو على إعلان البراءة له ولعائلته.