رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

شاكر عبدالحميد: الخطاب الدينى المتخلف وراء ما نراه الآن من عنف

شاكر عبدالحميد
شاكر عبدالحميد

له حضور هائل، ليس فقط من خلال كتبه القيمة، التى أثرت المكتبة العربية لتخصص مضمونها، ولكن لوجوده أيضا على أرض الإبداع، يناقش الكتب فى الندوات، ولا يبتعد عن الكُتّاب، الأمر الذى صنع ناقدا مهما جدا فى المجتمع الثقافى المصرى، إنه الدكتور شاكر عبدالحميد.
حين اختير «عبدالحميد» وزيرا للثقافة كان للاختيار حيثيات معينة، ظل فى وزارة كان متبقيا من عمرها ٦ أشهر فقط، وقبل أن تنقضى كان قد غادر منصبه نظرا لحالة الفوضى التى كانت تعيشها البلاد، آنذاك، وفى ندوة «الدستور» قال إن الفترة لم تكن كافية لأن يعيد الهيكلة، وأن ينظر فى الأمور التى يجب النظر فيها.
وعندما سألته «الدستور» عما يمكن أن يفعله لو تم تكليفه بالوزارة فى الفترة الحالية، أجاب بحسم: «لو منحونى خمس سنوات فى مثل هذه الظروف الآمنة لحققت إنجازا لصالح الثقافة المصرية».
هنا نسرد لكم ما قاله الأديب والناقد الكبير شاكر عبدالحميد فى ندوة «الدستور»، وقد اخترنا- نحن- أن نتركه يتحدث دون تدخل.

٧ آلاف جنيه أول مبلغ تحصلت عليه من الكتابة والشخصية المصرية تحتاج أن تُدرس لكشف أسرارها

فى البداية أحب أن أوضح أننى من المؤمنين بوحدة الفنون، وبأن معرفة المجالات الأخرى تثرى التجربة الإبداعية، وقبل عام ١٩٧٨ لم أكن أعرف الأدباء، كنت قد قرأت للكثيرين وحصلت على دبلوم علم النفس التطبيقى، ولكن لم تكن لى علاقات شخصية بالكُتّاب.
أما عن أول كتاب لى، فكان بعنوان «السهم والشهاب»، ونشر عام ١٩٨٧، وهو عنوان لدراسة كتبتها عن يحيى الطاهر عبدالله، وأخذت المقولة عن الروائى الفرنسى «موباسان»، الذى قال: «دخلت الأدب كالسَهم، وخرجت منه كالشهاب»، وذلك ينطبق على يحيى الطاهر عبدالله، ويحتوى الكتاب على عشرين دراسة.
بعدها بدأت بالتفاعل مع الندوات واللقاءات الثقافية، وبعد ذلك رحت أنشر هنا وفى العراق فى مجلات الطليعة وغيرها، وكانت الدكتوراه عن الإبداع فى الرسم، فدخلت إلى عالم الفن التشكيلى من بوابة الفنان حامد ندا، ثم حسين بيكار إلى أصغرهم فى ذلك الوقت صلاح عنانى.
أما عن سلسلة «عالم المعرفة»، فدخلتها برسالة الدكتوراه عام ١٩٨٤، وفى عام ١٩٨٧ نشرت فيها، وكان أستاذ الفلسفة فؤاد زكريا هو مستشار التحرير آنذاك، ونشرت بعنوان «العملية الإبداعية فى عالم التصوير»، ووقتها قال لى الفنان التشكيلى «عدلى رزق الله»: «أنا حبيت هذا الكتاب، ما عدا الجزء الذى ذكرتنا فيه».
والذى يقرأ الكتاب سيجد أن هناك عرضا للوحات الفن التشكيلى، وتحليلا لها، لفنانين مثل بيكاسو وغيره، وأذكر أن مكافأة الكتاب وقتها كانت ٧ آلاف جنيه، وكان أول مبلغ أتحصل عليه من الكتابة.
وحين قابلت الدكتور فؤاد زكريا، قال لى: «أنا سعيد بالكتاب، وحين قرأت سيرتك الذاتية وجدت أن هناك دراسات عن التفضيل الجمالى»، وطلب منى كتابا آخر عنه، فقلت: «هذا تكليف جيد»، وعملت على الكتاب وأكملته.
وكتابى الثالث كان عن الخيال، والرابع عن الفكاهة والضحك، وترجمت كتاب «العبقرية والإبداع والقيادة»، و«سيكولوجية فنون الأداء»، و«الغرابة فى الأدب»، وحاليا أعمل على كتاب «الغرابة فى مصر»، أى الغرابة عبر التاريخ المصرى.
ومن واقع تجربتى، أرى أنه لا بد من دراسة الشخصية المصرية، لأنها لم تدرس كما ينبغى، وهذا لا يمكن أن يقوم به فرد أو باحث واحد فقط، بل يحتاج إلى مجموعة باحثين، ولكن يجب أن تكون هناك أفكار، ودراسات مكتوبة قبل ذلك يمكن الاعتماد عليها.
وهناك أشياء نادرة إلى حد الدهشة فى الشخصية المصرية، أذكر أننى قرأت خبرا عن قيام معركة بين عائلتين وسقوط ضحايا بعد تبادل إطلاق النار بينهما، وحقق الضابط المسئول، فوجد أن سبب الخلاف نزاع على ملكية كلب، فكيف للعلاقات الإنسانية أن تتحول إلى موت بسبب أشياء بسيطة؟.
أنا مهتم بالغرابة عبر التاريخ، عن طريق دراسة المصريين، لماذا كانوا مستبعدين، وهذا ليس أمرا جديدا، بل إنه قديم قدم القاهرة نفسها، فحين تم تأسيس القاهرة على يد المعز لدين الله الفاطمى، وجوهر الصقلى، كانت القاهرة لهم وليست للمصريين، والقادة كلهم لا يوجد بينهم مصرى واحد، ليس بسبب جوهر الصقلى ولكن المصرى مستبعد عبر التاريخ.
الشخصية المصرية مازالت جزءا غامضا ولم يكتشف، والشخصية المصرية كما نعرف مثل المجتمعات لها خصائص وسمات، وهى مرتبطة بالزمن وليست منفصلة عنه، يمكن أن تتغير إيجابا أو سلبا، وهى تخضع للتغيير عبر الزمن، وهناك طرق للتغيير عن طريق مواجهة الأزمات، وهناك أساليب أخرى مثل التحايل أو إرجاء الاستجابة، والسلوك الإنسانى له بدائل، لا نستطيع قول كلام عام عن الشعب المصرى مثلما قيل عن التواكل وحس الفكاهة والنكتة وغيره.
وفيما يخص نظرتى للتاريخ، ففى القرن الماضى كان هناك حربان عالميتان، مات فيهما أكثر من ٦٨ مليون إنسان، منهم حوالى ٤٠ مليونا فى الحرب العالمية الثانية، وعدد كبير منهم فى الاتحاد السوفيتى سابقا، لذا نستطيع أن نقول إن الإرهاب بدأ فى القرن الماضى.
فلأول مرة تلقى قنبلتان على هيروشيما ونجازاكى كان فى هذا القرن، حقيقى أن القرن الماضى ظهر فيه الفن والإبداع ولكنه أيضا ملىء بالتدمير، فالمستعمرات مازالت موجودة، وكذا الحروب بين الصين والهند، وغزو العراق.
أما عن كونه قرنا للثقافة فالعنف فى حد ذاته ثقافة، وهناك أكثر من ٨٠ تعريفا للثقافة، ولكن سأذكر هنا ما قاله نورسل دى فراى، هو تعريف بسيط لكنه يساعد، يقول: إن «الثقافة مرتبطة بالماضى والحاضر والمستقبل».
وعن الماضى فهو التراث بمشتملاته من لغة وفنون، وكل ما يتم نقله من السلف على الخلف، وأما الحاضر فهو أساليب الحياة من أكل ولبس وتعليم، أى أن دخول الماضى على الحاضر، يمنحنا أسلوبا للحياة، مثلا فى اليابان يعلمون الطفل أنه جزء من الفريق، وليس فردا مستقلا، وحين يحتفل بعيد الميلاد يرون من يتوافق عيد ميلادهم فى المدرسة، ويقومون بعمل حفل جماعى.

تجديد الخطاب الدينى بـ«الممارسة» وجوائز معرض الكتاب تحتاج إلى الدقة
أرى أن مصر تحتاج للثقافة، ولكى تصل الثقافة للمواطن لابد أن نعيد النظر فى التعليم، ولابد أن يتم إدخال التذوق كمادة أساسية، وأن يرى الطلاب المتاحف واللوحات، فقديما كانت بعض المدارس تحضر فنانا ليحكى تجربته.
ولقصور الثقافة دور مهم ولكنها تحتاج إلى الكثير من العمل، فنحن نعيش فى فترة شبه رأسمالية، ويجب التفكير فى استراتيجية جديدة، وأرفض ما يطلق عن الأعلى للثقافة كمجلس لـ«العواجيز»، لأنها طريقة ازدرائية ومحقرة، وأذكر أنه منذ أربع سنوات كان به أستاذى «مصطفى سويف»، وهو من الخبرات العظيمة.
وأيضا للخطاب الدينى دور مهم، وهو الكلام والممارسات أيضا، مثل السلوك والملبس والطقوس والإقصاء والتكفير إلى آخره، والحل لتجديد الخطاب الدينى هو الممارسة، أى تحويل الكلام إلى سلوك، نحن ركزنا على الكلام وليس الممارسة، ويجب أن يدخل فيها القانون أيضا، لا يصح تكفير الآخر أو أن تقول ممنوع السلام على المسيحيين مثلا، يجب أن يكون هناك عقوبة فى هذا الأمر، فهو يحرض على العنف.
والسبب فيما نراه الآن من عنف، هو هيمنة الخطاب الدينى المتخلف، والفهم الضيق المحدود للدين، وهناك عوامل كثيرة، مثل تحريم التصوير وغيرها.
الإمام محمد عبده فى أواخر القرن قبل الماضى قال فتوى جميلة عن التصوير، وهناك حكايات جميلة عن التصوير حين دخل الرسول مكة واتجه أصحابه إلى التماثيل ليكسروها فرأى فى مكان قريب من الكعبة صورة للعذراء وابنها، وحين اقتربوا ليمزقوها قال: «هذه لى أنا»، الأمور تغيرت بعد ذلك.
وهناك فتوى أوردها مفتى الجمهورية منذ عشرين عاما، قال فيها: «أنا أسمح بالتماثيل النصفية، أى نصفية التى يسمح بها!! لا أعرف».
أما عن الخطاب الثقافى فالخطاب هنا أشمل من الرؤية، بمعنى أنه أفكار ورؤى وممارسات، ولنحقق التطوير علينا اتباع ما يسمى التحليل الرباعى، فمثلا لدينا مؤسسات مثل الأوبرا، بالتحليل الرباعى سندرك حجم الفرص التى كانت لدى الأوبرا ولم تستفد منها، والمنجزات والسلبيات كذلك، مثل النمطية وسيطرة الموظفين والأفكار التقليدية. وهناك شواهد قد تعبر عن واقعنا، مثل جوائز معرض الكتاب، فالأمر يحتاج إلى مزيد من الدقة والضبط والإحكام.. قيل إن الهيئة لا ترشح، ولكن الكاتب من يرشح أو الناشر الذى يطلب موافقة المؤلف، وحدث أن إدارة الدار المصرية اللبنانية التى نشرت بها كتابى أرسلت لى خطابا تطلب منى الترشح، ورفضت، لأن هناك أقاويل ستتناثر لو فاز الكتاب، وقلت لهم بالنص: «امنحوا فرصة للشباب».

لا تقارنونى بـ«فاروق حسنى».. امنحونى الوزارة خمس سنوات وحاسبونى بعد ذلك
كنت وزيرا للثقافة من ديسمبر ٢٠١١ إلى مايو ٢٠١٢، لمدة ١٥٠ يوما، فى ظل اضطرابات ومطالبات وغيره، والدولة لم يكن بها استقرار كما هو الآن، أتكلم عن دعم الدولة، وقتها كل الدعم كان للأولويات، والأولويات كانت تتمثل فى الأمن والاقتصاد، لكن هل الثقافة لم تلعب دورا؟ لا بالعكس، لعبت الثقافة دورا مهما.
لا يمكن أن يقارننى أحد بفاروق حسنى، امنحونى خمس سنوات فى مثل هذه الظروف الحالية وانظروا ماذا سأفعل، هذا ليس معناه أننى أطالب بأن أكون وزيرا للثقافة.
حين كنت وزيرا دعمنا مهرجان الأسر، وأعدنا معرض الكتاب، وشاركنا فى المؤتمرات الدولية، كانوا يقولون إن البلد جيد، فلماذا تلك الصورة المصدرة، أعدنا النشر والأوبرا، وكانوا يقولون: «اشكر كمال الجنزورى»، رغم أننى لعبت دورا مهما، وأنا من اخترت إيناس عبدالدايم لدار الأوبرا.
الثقافة فشلت فى تحقيق تأثير، فحين أتذكر أكثر وزيرين صنعا نقلة ثقافية، أذكر اسم ثروت عكاشة، وفاروق حسنى، وبعد الثورة أكثر شخص ظل موجودا هو صابر عرب، ثم حلمى النمنم.
وأرى أن هناك خططا استراتيجية لابد من تنفيذها، وأن يضع الوزير تقييما رباعيا كل ستة أشهر، من كافة المناحى، الهند والصين قدمتا خارطة للاستثمار، ولابد أن نسأل عن العلاقات الثقافية الخارجية، وأقول للوزير «إن لم تنجز شيئا فى مدتك فلتترك الوزارة ليأتى غيرك، ولكن لا يصح أن تقارن بين فترات طويلة جدا وفترات قصيرة».
وأرى أنه من الضرورى تحويل الثقافة إلى صناعة ثقافية إبداعية، فحين كنت موجودا بالرغم من الفترة القليلة التى قضيتها كوزير، كنا نبذل مجهودات مع فايزة أبوالنجا، وزيرة الاستثمار والتعاون الدولى حينها، وكانت متحمسة فعلا لدعم السينما المصرية من الخارج والداخل. وعلى ضوء ذلك عقدنا عدة اجتماعات، وكان معى المخرج مجدى أحمد على، وخالد عبدالجليل، وسميرة أحمد، وصفوت غطاس، وماذا تم بعد ذلك أنا لا أعرف، إذًا فمسألة السينما أساسية، ويجب أن يكون هناك تركيز قائم على الثقافة، أى ثقافتك أنت كمصرى، ولا بد أن تتعامل على أنك لن تحاكى الآخر، وأن يكون لك منجزك فى الصناعات الشعبية.
فى الصين مثلا هناك قرية كاملة لاستنساخ اللوحات، وهذه القرية بها سبعة آلاف فنان، ومعظمهم ذوو احتياجات خاصة، وهم يرسمون اللوحات، وتعامل كخط إنتاج، وتباع اللوحة بخمسة دولارات، فى القرية هناك تمثال ليوناردو دافنشى، وكان يفكر فى آلات لاستنساخ اللوحات، كان مهندسا وفنانا.
وأحب أن أؤكد أهمية القوى الناعمة، وهى قدرة الثقافة على التأثير إيجابيا على الآخرين، كيف تقدم ثقافتك للآخر؟ هل تجذبهم بالفعل؟.. المنتج والترويج له لا بد أن يكون مقنعا وجذابا، بحيث يتم تفضيلك، لأن كل إنسان لديه بدائل، وقدر من الصدق والإيجابية، السياسة والدين والقوى السياسية، كلها قوى ناعمة، لذلك فالمعروف أن القوى الناعمة بالترغيب، أما القوة الخشنة فبالترهيب.
حين دمرت طالبان التماثيل البوذية، كانت هناك صورة قد تكونت عن مثل هذه المنظمات، أنها ضد الفن والإبداع وضد الآخر تماما، وفى الغزو العراقى حدثت سرقة للمتاحف والآثار، هى سرقة روح الأمة، وحين سرقت إسرائيل مركز الدراسات الاستراتيجية والتراث الفلسطينى من بيروت، كان هذا معناه تفريغ الشخصية من مضمونها الروحى. القوة الروحية هى الدافعة للحياة، لروح المكان، فحين نقول روح مصر فنحن نقصد إبداعها وتاريخها ومنجزها ودورها الحضارى، فتقنع الآخرين فيأتون إليك، الصين تهتم بسردياتها إيجابيا، هذا ما يقوله رؤساء الصين فى خطاباتهم، يقولون: «نحن لا نقدم منتجنا للعالم بقدر ما نقدم الصين للعالم»، وحين تسأله كيف أنجزتم فى الستين عاما هذا المنجز؟ يقول لك: «نحن نملك حضارة تقدر بـ٥ آلاف سنة، نحن نقدم الصين كقوة ناعمة»، والآن هى تقدم نفسها متصارعة مع الولايات المتحدة فى الصناعة، إذًا يجب على الدولة دعم الثقافة والفن، وأن تبنى مدنًا للرسامين وغيره.