رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حسنات «البرلمان» وسيئاته


 

 

السيئة التي ارتكبها مجلس النواب، بتعديلاته العبثية للمادة ١٣٤ من مشروع قانون الإجراءات الجنائية، أذهبتها حسنة البيان الذي رد به على مطالبة البرلمان الأوروبي بوقف عقوبة الإعدام في مصر. والحسنات يُذهبن السيئات، كما قال المولى عز وجل وهو يُذكّر الذاكرين.

البرلمان الأوروبي، ظنّ أن مصر لا تزال تحت الاحتلال البريطاني، وطالب السلطات المصرية بوقف تنفيذ الإعدام، زاعمًا أن «هذه الظاهرة تشهد انتشارًا ملموسًا في مصر منذ ديسمبر ٢٠١٧». وناشد السلطات القضائية المصرية بإعادة النظر في كثير من القضايا!. وعلامة التعجب من عندي، يتبعها إعجاب ببيان مجلس النواب، الذي رد على ذلك بأنه «بمثابة إخلال جسيم ببديهيات مبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية للدول، الذي يرتكز على مبدأي سيادة الدولة والمساواة بين الدول في سياداتها».. و«ينم عن جهل بحقيقة الأوضاع في مصر، ويتغاضى عن مناقشات مطولة، سواء مع ممثلي البرلمان الأوروبي أو المفوضية الأوروبية، أو دول الاتحاد الأوروبي حول الموضوعات المختلفة ذات الاهتمام المشترك، ويتضمن بيانات مختلقة، فضلًا عما يمثله من تدخل «فج» في الشأن الداخلي المصري».

وحسمًا للأمر، أشار بيان البرلمان إلى أن وقف عقوبة الإعدام ليس التزامًا دوليًا أو موضع توافق بين الدول، كما أن الترويج لمفاهيم لا تتوافق مع القيم الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمعات الأخرى ومحاولة فرضها على الدول الأخرى من خلال طرق مختلفة وملتوية كأنها الحقيقة الوحيدة التي يجب على الجميع الانصياع لها، هي استعلاء مرفوض. وشدّد على أن «لمصر الحق في اختيار نظامها القانوني والقضائي الذي يتفق وحضارتها وتطلعات شعبها والتزاماتها الدولية التي ارتضتها طوعًا، فلقد تعاقبت الدساتير المصرية منذ دستور ١٩٢٣ وحتى دستور ٢٠١٤، والتي تلزم جميع سلطات الدولة باحترام مبدأ سيادة القانون كأساس للحكم. ففي مبدأ شرعية الجرائم والعقوبات، العقوبة شخصية، ولا جريمة ولا عقوبة إلا بناء على قانون، ولا توقع عقوبة إلا بحكم قضائي، فالمتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية عادلة، تكفل له فيها ضمانات الدفاع عن نفسه».

وباستفاضة، شرح البرلمان الإجراءات والضمانات التي يضمن بها القانون المصري لمن يواجه هذه العقوبة حصوله على محاكمة عادلة منصفة، تتاح له خلالها الفرصة كاملة للدفاع عن نفسه وفقًا للمعايير الدولية. كحرص المشرع المصري على رصد عقوبة الإعدام لأشد الجرائم خطورة وأكثرها جسامة وهي جميعًا من الجنايات. ووجوب إجماع آراء قضاة المحكمة على الحكم بالإعدام. وعرض جميع الأحكام الصادرة حضوريًا بعقوبة الإعدام على محكمة النقض دون أن يتوقف ذلك على الطعن فيها من قبل أطراف الدعوى الجنائية حرصًا على التحقق من مطابقة الحكم للقانون. إضافة إلى عدم جواز الحكم بالإعدام على المتهم الذي لم نجاوز سنه الثامنة عشرة… وأنه متى صار الحكم بالإعدام نهائيا وجب رفع أوراق الدعوى فورًا إلى رئيس الدولة، للنظر في صدور أمر بالعفو أو لإبدال العقوبة في غضون أربعة عشر يومًا، كما حرص المشرع المصري على وضع ضوابط مشددة لتنفيذ عقوبة الإعدام.

الإعجاب يليق أيضًا بإعلان البرلمان المصري رفضه أي إملاءات بتعديل قوانين محلية صاغها نواب الشعب المنتخبون وفقًا للدستور، وتنبع من السياق الاجتماعي والتهديدات الأمنية التي تواجهها البلاد. وكانت لكمة مزدوجة حين طالب البرلمان الأوروبي بـ«اتخاذ الإجراءات اللازمة لمواجهة الإرهاب وغيرها في الآونة الأخيرة التي تتجاوز الحدود الدنيا من الحماية المفترض توفيرها للحقوق والحريات اللصيقة بشخص مواطنيها، وأن يعالج مشكلات العنصرية والتمييز في المجتمعات الأوروبية، قبل أن يسعى لتلقين شعوب وبرلمانات دول أخرى مبادئ حقوق الإنسان. ونوه مجلس النواب المصري، بأن توقيت صدور بيان البرلمان الأوروبي خلال فترة الانتخابات الرئاسية، وبالتزامن مع انطلاق الحملة الشاملة على الإرهاب في سيناء، يثير كثيرًا من علامات الاستفهام حول مصداقية بعض الأطراف في الحرب على الإرهاب، وأن استغلال ملف حقوق الإنسان وإثارته بين الحين والآخر لتضييق الخناق على مصر، يجب أن يتوقف».

تلك هي الحسنة، أما السيئة فارتكبتها اللجنة التشريعية حين أدخلت، في ١١ فبراير الجاري، تعديلات على المادة ١٣٤ من مشروع قانون الإجراءات الجنائية، نصّت على تخصيص نصف مبلغ كفالة الإفراج عن المتهم لصندوق الرعاية الصحية والاجتماعية للقضاة، فأعلن نادي القضاة، في خطاب أرسله إلى رئيس مجلس النواب، رفضه التام نص تلك المادة بصياغتها الحالية لما تثيره من شبهة مخالفة قواعد الحيدة والعدالة في نفوس العامة. وحتى تتضح الصورة، نشير إلى أن الكفالة عبارة ضمان مالي، لإلزام المفرج عنه، على ذمة القضية بحضور جلسات التحقيق والمحاكمة، وعدم التهرب من التنفيذ، ويستردها بعد صدور حكم البراءة أو تنفيذه حكم الإدانة. وحال تخلف المتهم، دون عذر، تصادر المحكمة الكفالة وتؤول إلى الموازنة العامة للدولة، التي لا يحق تحديد مصادر صرفها، لغير السلطة التنفيذية، ممثلة في وزارة المالية. واستفادة القضاة بشكل مباشر أو غير مباشر من «نصف الكفالة»، فإنه يجعل القضاة أصحاب مصلحة، ويضع «القضاء المصري في مواطن الشبهات» وفقًا لتعبير نادي القضاة، في الخطاب الذي طالب فيه رئيس مجلس النواب بتدارك هذا النص.

بهذا الشكل، لا يكون أمام مجلس النواب غير تدارك هذا النص، أو التراجع عن تلك السيئة. ولو تمسك بأن «الحسنات يذهبن السيئات»، ننصحه بأن يستغل «حسنة» ردّه على البرلمان الأوروبي، في محو سيئة أخرى، من سيئاته العديدة، السابقة أو اللاحقة!.