رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محسن عيد يكتب: «الحرب الشاملة 6.. الإعلام الضائع فى الحرب على الإرهاب»

جريدة الدستور

عندما حانت ساعة الصفر للقضاء على الإرهاب، وانطلقت قوات إنفاذ القانون من الجيش والشرطة إلي سيناء لبدء عملية التطهير والتجريد لكل العناصر الإرهابية المستوطنة في أرض السلام.. وبعد أن صدر البيان الأول للحرب الشاملة على الإرهاب.. راح الناس يبحثون عن إعلامهم، ليعرفوا، ويفهموا، ويتابعوا بطولات أبنائهم المشاركين في أكبر عملية مكافحة مصرية ضد الإرهاب.. وتسمر المصريون أمام شاشات التلفاز، وكل منهم يقبض على "الريموت" يوجهه من قناة إلى أخرى، ومن برنامج إلى برنامج.. وآخرون ربطوا أسماعهم بأصوات المذيعين في الراديو.. فهذه قناة لم تدرك أننا في حالة حرب شديدة الضراوة، وكأن القائمين عليها تصوروا أن أبطالنا ذهبوا إلي نزهة خلوية في سيناء، وهذا برنامج اكتفي بمقدمة من مقدم البرنامج ولكنه سرعان ما عاد إلى استكمال برنامجه في فقراته الحوارية مع فنانة أو مناقشة قضية خلافية، فيدير الناس "الريموت" إلى برنامج آخر.

وامتطى المذيع الهمام هواء البث المباشر، ليتحفنا ببعض الأخبار من هنا وهناك ولم يعرج علي القضية الأهم إلا قليلا.. إلا قليلا من بعض البرامج التي نقلت وتابعت الحدث الأهم، أما القنوات الاخبارية فاكتفيت بإذاعة البيان الأول على لسان العقيد تامر الرفاعي المتحدث الرسمي باسم القوات المسلحة.. وقال المصريون: لم يبقى لنا غير تليفزيون الدولة "ماسبيرو"، فهرولوا إليه وكانت صدمتهم أشد، فلم يكن تليفزيون الدولة على قدر المهمة الخطيرة التي يقوم بها أبناؤنا في سيناء.. وعندما فقد الناس أن يصلوا إلي حالة الإشباع، أداروا "الريموت" نحو القنوات المشبوهة مثل الجزيرة وأخواتها، فسمعوا ما يدفعهم إلي تحطيم التليفزيون أو الراديو من هول الأكاذيب والسموم، فيقولون ويرددون في بجاحة أن الجيش المصري ذهب إلى سيناء لاحتلالها.. ياللعجب !! العطب والتبجح، وياله من فجر مفضوح، وكذب ممجوج.. فصرخ الناس في ألم، وكأن لسان حالهم يقول "ذهب أولادنا للحرب، وإعلامنا عن الوطن غياب، وقنوات الشر تبث سمومها.. أين أنت يا إعلامنا العزيز؟".
وأكتب بغصة رغم أنني أنتمي لهذا الإعلام، والذي أتصور أنه قاطرة هذا الوطن لقدرته على تشكيل الوعي الجمعي للأمة حول قضية خطيرة تعتور حياتنا، وتوقف زحف تقدمنا ونهضتنا.. وعندما تكون الدولة في حالة حرب فإن الإعلام – صحافة وتليفزيون وإذاعة - واجب عليه أن يرتدي "الأفرول" وهو ملابس الجيش، وأقصد بهذا التعبير أن يتحول عقل الإعلام إلى أن يكون في مقدمة طلائع الحرب الشاملة على الإرهاب، وهو دور وطني ضروري وحتمي.. فإذا كان الإعلام في زمن السلم يمثل انعكاسا للمجتمع وقضاياه وعرضها وتحليلها وتشريحها، والمشاركة الجادة في تنمية المجتمع، فان الاعلام في زمن الحرب، يحمل العلم المصري والسلاح والبندقية، من خلال مؤازرة أبطالنا في حربهم المقدسة من أجل الوطن، فليس من المقبول أن نري جنودنا وقد حملوا أرواحهم علي أكفهم من أجل أن نعيش في أمان في وطن آمن، ثم نجد بعض المذيعين وقد ظهروا على شاشات برامجهم يرتدون أفخر الملابس من الماركات العالمية، بعد أن تحولوا إلي نجوم تتجاوز مرتباتهم مئات الألوف وأحيانا عشرات الملايين في العام الواحد رغم الازمة الاقتصادية التي يعيشها الشعب المصري.. وفي الوقت الذي يحمل فيه جنودنا وضباطنا من قوة إنفاذ القانون علي ظهورهم وأكتافهم مهماتهم العسكرية لا يريدون غير العودة بأكاليل النصر أو الشهادة، ثم نجد أولئك الإعلاميين يضحكون ويقهقهون والقضايا غير ذات قيمة يناقشون، فتركهم الناس وتحولوا عنهم أو أغلقوا تليفزيوناتهم وهم يمصمصون الشفاة ألما وكمدا.

الإعلام ينبري حول قضية تجمعه، فهل خسر الإعلام القضية التي جاءته على طبق من ذهب، لتجمعه وتعيده إلى قلوب متلقيه من المصريين؟؟.. كان الإعلام في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر – رغم التطور الهائل في تقنيات الإعلام – يعيش في قلب القضية، يحيا كل تفاصيلها، نقل معاناة الناس للقيادة السياسية، وآمن بحقوق الفقراء والفلاحين والعمال، وتمسك الإعلام في ثقة بمبادئ ثورة يوليو 1952، واستطاع النظام والإعلام آنذاك أن ينقل المجتمع من قاع الجهل والتخلف إلي آفاق العدالة الاجتماعية والتقدم..

ومع بداية عهد الرئيس الراحل محمد أنور السادات بدأ الإعلام تائها شريدا، يبحث لنفسه عن مهمة ودور وقضية.. فالدولة كانت في حالة هزيمة وإنكسار، انعكس علي المصريين بالإحباط، ولأن الإعلام كان جزءا من الوطن عاش نفس الإحباط، وبدأ الإعلام وكمن انفصل إلى شخصيتين.. إحداهما سكنت الماضي وراحت تقلب في كل مواطن الجمال فيه، وتترحم عليه، وتسكب الدموع ساخنة على ماض لو بقي لتغيير وجه الحياة، والشخصية الأخرى للإعلام كانت تحاول أن تهيل التراب على هذا الماضي وتبحث في كل مساوئه ولا تتورع من أن تلبسه ثوب الفشل.. حتى كان قرار الحرب في أكتوبر 1973، وكما كان القرار صدمة في إسرائيل أفقدها التوازن حتى الهزيمة، كانت حرب أكتوبر صدمة للإعلام أيضا، ولكنها كانت الصدمة التي جمعته على هدف واحد، ورسالة واحدة، وهما النصر للوطن.. فكانت حرب أكتوبر هي القضية التي وحدت الإعلام وصفوفه.

ثم عاد الإعلام ثانية إلى تفريقه وتشتته حتى نهايات نظام مبارك، واتسع الإعلام بدور صحف جديدة وقنوات فضائية خاصة، ولكن كانت السمة الغالبة في الاعلام في هذه المرحلة هي تحول كل مذيع إلي زعيم سياسي ومناضل على الشاشة، وكان النظام يخشاهم، وتخشاهم الحكومة لدرجة أن بعض عمال المحارة والصنايعية – مع الاحترام لكل هذه الحرف والعاملين فيها – اشتروا امتياز إصدار صحف من الخارج وبدأو يصدرونها في مصر، واستخدموا أسلوب الترهيب للمسئولين لدرجة أن الحكومة ومؤسساتها كانت تسترضيهم بالإعلانات التجارية في هذه الصحف لدرجة أن بعض هؤلاء حققوا أرباحا بالملايين.. فما بالكم إذن بالبرامج الفضائية التي إرتدي مذيعيها ثوب الزعامة والنضال، فاختلط الإعلامي بالسياسي، فتاة الإعلام في دهاليز السياسة بعد أن فقد جزءا كبيرا من هويته ودوره المنوط به، ولا نقول في الصدد غير أن السياسة قد أفسدت الإعلام وجرفت هويته..

واختلف الإعلام حول ما حدث في 25 يناير بين ما إذا كان ثورة حقيقية نقية،أم أنه كان عبارة عن حالة غضب تم التدليس فيها على كثير من المصريين،أم أنها مؤامرة تحالف فيها شياطين الخارج مع أشرار الداخل، وهو ما فطن له الإعلام بعد أن كاد الوطن يضيع، فتوحد خلف قضية الوطن، وهي عودة الهوية وعودة الوعي، وكان ذلك بمثابة القضية التي التف حولها الإعلام المصري في مواجهة كل محاولات تقسيم المجتمع.. وكانت النتيجة هي ثورة الشعب في 30 يونيو التي تعد بمثابة القاطرة التي حملت الاعلام في طريق البحث عن ذاته إلي المحطة الأهم وهي قلوب المصريين الذين وجدوا ضالتهم في إعلامهم الذي أخذهم إلى قلب التحدي والصمود في مواجهة كل محاولات اختطاف الوطن أو مسخ الهوية.

وتأتي اليوم الحرب الشاملة على الإرهاب، وكنا نتصور ونأمل ونتمنى أن تكون الحرب على الإرهاب هي القضية التي توحد الإعلام وتعيده إلي قلوب الناس، ويحقق كل أهدافه الوطنية والتربوية والمعرفية والأخلاقية، باعتبارها قواعد وأركان فلسفة إعلامية مختلفة، بعيدا عن النظريات الاعلامية المستوردة من الخارج والتي لا تساير النسق القيمي المصري.. ورغم ذلك فإن الأمل ما زال يحدونا أن يدرك إعلامنا أن الحرب على الإرهاب هي قضيته التي يبحث عنها.