رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أشرف عبدالشافى يكتب: وقائع موت السيد الوالد


فى الابتدائية.. كنتُ كلما خَطرتْ الفكرة على بالى أقول وبسرعة: «بعد الشر.. بعد الشر..»، وأنشغل بشىء آخر حتى لا أتخيلك ميتًا!. كنتُ أشعر بالخجل لأننى سمحت لحظة لعقلى بالتفكير فى موتك، ولا أعرف لماذا كانت تلك اللحظة تباغتنى وأنا فى المدرسة تحديدًا، فأهز رأسى لأهرب بعيدًا، وأنشغل برائحة «الأستيكة».. كانت لها رائحة طيبة يا أبى.. كثيرًا ما فكرت فى سرقة واحدة من الواد «محمد شكرى»، الذى سافر والده السعودية واشترى له كورة جلد وترنج أحمر وأقلام رصاص وأستيكة خضراء شفافة تفوح منها رائحة غريبة وجميلة.. كنتُ أجرى على البيت كى أطمئن أنك ما زلت جالسًا على المصطبة وأنهم لم يخفوا عنى خبر موتك كما كنت أظن دائمًا.
لكنك وأنا فى الإعدادية لم تكن طيبًا كما ينبغى!، فسمحتُ لعقلى بأن يفكر فى «المسألة» دون شعور بالذنب!، هل تذكر يوم الجمعة؟!، كان يوم جمعة يا أبى.. ألا تذكره؟!..
فى العاشرة صباحًا مرَّ «محمد شكرى وعبدالوهاب المصرى وأحمد على» وطرقوا الشِّباك طرقات مُتفق عليها خوفًا منك، وهمسوا: «فريق غرب البلد جاى النهارده»، كنتُ أنا رأس حربة فريق شرق البلد دون أن تدرى، لم تكن لطيفًا فى ذلك اليوم يا أبى، منعتنى ووبختنى أمام زملائى.. وزملائى أيضًا- حتى لا أكون قد أخفيت عنك شيئًا- فكروا فى المسألة، بعدما هددوا، واحدًا وراء الآخر، بمقاطعتى بسببك، ولم أكن أجد ما أدافع به عنك.
قبل المباراة، بدقائق تحديدًا، طلبتَ منى أن أذهب إلى بيت عمتى عائشة البعيد جدًا: «تجيب من عندها شوية برسيم للحمار ضرورى».. زمجرتُ أنا، فقط زمجرت، فهوتْ كفك الكبيرة على صدغى.. وذهبتُ إلى عمتى وأنا أبكى بحرقة وأفكر فى «المسألة».
فى الثانوية بدأت أتساءل: ماذا سأفعل لو متَّ فى هذه اللحظة؟..
هل سأبكى مثلما فعل «عبدالوهاب المصرى»؟ ثم أواصل الدراسة عادى.. وأتناول الإفطار والغداء والعشاء.. عادى مثلما يفعل؟ هل سأضحك وأثرثر مع زملائى بعدك؟ ومتى يجب أن يرانى الناس ضاحكًا دون أن يتندروا أو يتهامسوا؟!
إن لحيتى لم تنبتْ بعد كى أطلقها وتكون عنوانًا صارخًا على حزنى!، إنها خفيفة..ناعمة.. ومُخجلة ومتناثرة بعشوائية تحت الذقن ووسط الخد، كأنها أرض بور إلا من بعض الحشائش!، لو كانت خشنة؟! لو كانت لحية أصلًا؟!.. كنت سأطلقها أربعين يومًا وأزيد عليها، كنت سأجعلها متوحشة فى اكتئابها حتى لا يتندروا كما فعلوا مع «جمعة حسن».. البلد كله سخر منه.
كان حديث القرية بعد أن حلق ذقنه ووضع الكالونيا والشال الأبيض ودار فى البلد «عادى» قبل مرور أقل من عشرة أيام على موت والده: «الواد ده ما عندوش دم؟!..أصله بعيد عنك ابن حرام.. أبوه كان كده.. ربك بيسلط أبدان على أبدان.. كما تدين تدان.. عليّا النعمة أبوه عمل كده فى أمه الله يرحمها، كان بيحط لها الأكل فى صحن زى القطط.. وليلة ما ماتت شرب بيرة»، سأقطع كل هذه الألسنة قطعًا، سأجعل الآباء يحلمون بأن يحزن أولادهم عليهم مثلما سأحزن، سأجعلهم يتضرعون إلى الله كى يهبهم ابنًا صالحًا ورعًا طيبًا بارًا بوالده مثلى، ليس هذا فحسب، سأتصل بزيرو ٩٠٠ وأحجز «كولدير»!، نعم «كولدير»، يكون سبيلًا، تتدلى من حنفياته سلاسل متصلة الأكواب يشرب منه أهل البلد ماءً رائقًا باردًا فيه لذة للشاربين، ولن يترددوا بعدها فى تذكرك بالخير وقراءة الفاتحة على روحك.
لن أمشط شعرى.. لاااا.. سأداريه تمامًا، سأرتدى طاقية، وسأختار لونًا وقورًا محترمًا، وليكن الكُحلى أو الأسود، لقد اخترعوا للطاقيات أشكالًا يا أبى، هناك «الكاب والآيس كاب، ويظهر اللاعبون والفنانون بها فى حفلات الصيف».. بالطبع لا تعرف أنت كل ذلك.. ولا تعرف أن الطاقيات لم تعد مصنوعة من ليف النخيل ولا من الصوف البنى الكالح؟!.
عمومًا.. سأفعل كل ذلك حتى يردد أهل البلد: مات وساب وراه رجالة بصحيح.
فى الجامعة.. كنت أتساءل عن الساعة التى ستموت فيها، هل فى الليل؟!.. ليتك لا تفعلها فى الليل!، لا أقصد أننى أتمنى لك الموت، ولكن قد أكون هنا فى المدينة الجامعية والطريق إلى البلد يزيد على الـ٢٥٠ كيلو!!، ماذا سأفعل فيها، كيف سأذهب إلى المحطة أصلًا؟!.. البكاء يجب أن يكون طازجًا وحارقًا.. هل سأبكى هنا؟ أم فى الطريق إلى المحطة وتنتهى القصة؟! هل سيتجمع أصدقائى ويتبرعون بتوصيلى للمحطة؟ هم أندل من توصيلى إلى البلد على أى حال.
سيكون مشهدًا دراميًا غير لائق، ثم كيف سأسافر يا أبى؟!، أقصد ماذا سأرتدى؟!: قميصًا وبنطلونًا أم جاكت؟، هل أسافر بالجلابية والكوفية حتى أبدو فى مهابة الموت وأكون جديرًا بنظرات العيون التى تنتظر «ابنًا» جاء من القاهرة مذعورًا مخضوضًا لحضور جنازة والده.
على كل حال، سيتصل أحد إخوتى ويقول عبارة ركيكة معادة ومستهلكة: «أبوك تعبان شوية»، سيكون الأمر قد انتهى، ولن آراك ثانية، ستأخذ معك آلام الروماتيزم وعذابات التراحيل وتفاصيل المهانات التى كنت تداريها عنّا، ستترك أربع سجائر فى العلبة وقصّافة أظافر وسط أكياس الدواء المحشورة فى المخدة، وربما أبكى بحرقة وأنا أنظر إلى حذائك البنى المصنوع من القماش.