رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

صدور رواية «الوصايا» للكاتب عادل عصمت

جريدة الدستور

بالتزامن مع معرض القاهرة الدولي للكتاب، تصدر عن الكتب خان، أحدث الأعمال الإبداعية للكاتب الكبير عادل عصمت، بعنوان «الوصايا».

وفي لغته الخاصة به المعتمدة على السرد المكثف وجمل الحوار القصيرة المقتضبة، وعالمه المفضل المنتمي إلى الريف المصري المحتجز خلف التناول السطحي للكثير من الأعمال الأدبية، يقدم لنا عادل عصمت حكايته الجديدة.

وعبر وصايا عشر، تبدأ بالخلاص عن طريق تحمل المشقة، ولا تتوقف عند فضيلة التخلي، يسرد الجد سليم حكايته لحفيده «الساقط» كما يسميه، الذي اعوجت حياته واختلّت كما اعوج الزمن، الذي شهد صعود دار سليم من رماد الانهيار ثم ازدهارها ثم هدمها وتشتت سكانها في أرجاء العالم الفسيح، لتتلاشى إلى الأبد.

ويواصل عادل عصمت، تأمله في ما يكمن خلف الزمن، ذلك الذي يمكن اعتباره خطًا أساسيًا لكتابته بوجه عام، أطوار البشر وفصولهم الأربعة، إشراقهم وكفاحهم وضعفهم وذبولهم، الأماكن التي نبنيها لتكون ذاكرةً فتنسانا أو ننساها بعد حين، المشاعر التي تولد بداخلنا ثم تحملنا إلى وجهة أخرى غير التي كنا نتجه إليها أو تتبدد وتتركنا في العراء أشخاصًا يرون أنفسهم للمرة الأولى.

وعبر الزمن تسير الحكاية في خطوط متوازية، نرى منها خط رواية الأحداث من الجد الذاهب إلى الموت، حيث الزمن الذي ودعه والأشخاص الذين شهدهم وشهدوه، كما نرى خط الحكاية نفسها، كما يرويها الجد بطريقة الفلاش باك، وتحت هذا الخط نلمح خطوطًا أخرى خفية، تسير داخل الأشخاص لتكمل الحكايات الصغيرة التي لم تكتمل، لكنهم يصرون على إكمالها، فنرى الشيخ وهو يغالب قصة حبه -الشديدة الخصوصية والمفرطة في العمق- لزوجة صديقه الأقرب، لتتحول بداخله إلى نوع آخر من المشاعر أكثر صلابة ودفئا من أي شيء قد صادفه، كما نرى زوجة علي سليم، وهي تتمسك بموقعها في الدار رغم وفاة زوجها صاحب النفوذ الأكبر في الدار والأرض، ورغم مرور الزمن وتعلم الأولاد في الجامعة لتصبح مواهبها الحسابية المبهرة بسيطة وساذجة لا تؤهلها للاحتفاظ بموقعها القديم ذي السطوة، ونرى خديجة وهي تتحسس الجدران تخاطب "من لا اسم لهم" الذين يهددونها بهدم البيت وفقدان العائلة، الأمر الذي جعل أهل الدار يعاملونها بمزيج من السخرية والشفقة قبل أن يدور الزمن ويتساءلون إن كانت قد رأت كل هذا سابقا بعين البصيرة.

ويرافق عادل عصمت، شخصياته كأصدقاء قدامى، ينصت إليهم بعناية شديدة ويترك لهم مساحات لتجلي قوتهم وضعفهم، ويرصد تفاصيلهم وينشئ العلاقات المتشابكة بينهم، ويتابع الهواجس التي تمر برؤوسهم والذكريات التي تظهر فجأة أحيانا لتتحدث نيابة عنهم، وللحظات يتصور القارئ نفسه وسط عائلة حقيقية من لحم ودم، يجلس في صحن الدار معهم أو على رأس أرض النخل، يسوق البهائم أو يعلن تذمره من أجل الزواج، ويرى الشيخ ويراه، وتأسره النظرة ذاتها والصوت العميق ذاته فلا يتمكن من مخالفته.

ويصر الشيخ على استكمال الحكاية رغم شحوب ذاكرته التدريجي وذوبان الفاصل بين الحياة والموت في وعيه بما حوله، ورغم رغبة الحفيد نفسه أحيانا في عدم استكمال الحكاية وخوفه من بعض أجزائها، ويغيب الجد في تأمله ثم يعود ليستمع إلى أذان الظهر الذي لا يسمعه غيره، فينظر إلى حفيده المستمع المستسلم بجدية ليقول: "أين كنت؟" فيرد: "هنا". فيقول بحسم: "أنت كذاب"، ثم يتطلع في عينيه مباشرة ليقول: "سوف تضيع"، ويصر الشيخ ربما لأن الحكاية قد أسرته بالفعل في زمنها الخاص، أو ربما لأنه بهذا يضمن البقاء الرمزي لهذا الزمن، البيت والأرض والعائلة، حين يحملها الحفيد في رأسه مثلما يحمل في أوردته دماء هؤلاء الراحلين. أو ربما ليتوقف هذا الحلم الذي يطارده منذ عقود، هذه الجلابيب المعلقة على الحبال، الجلابيب التي تنادي من فارقوها، ويطارده الحلم في أوقات نكبات الدار ولا يغادره في أوقات ازدهارها، كأنما يذكره بالمسئولية التي يحملها على كتفيه، مسئولية حماية الدار وبقائها، تلك المسئولية التي لن يمكنه الهرب منها حتى بالموت.