رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

من المظاهرات الإيرانية اليوم إلى باب المجيدى بالأمس




لم تكن المظاهرة فى إيران مظاهرة واحدة بل عدة مظاهرات، انفجرت فى أكثر من مائة مدينة وقرية، بدأت فى مدينة مشهد شمال شرق البلاد فى ٢٨ ديسمبر ٢٠١٧، وهى المدينة الأكثر قدسية فى إيران، وانتقلت إلى عشرات المدن الإيرانية.
كانت المظاهرة فى البداية (لا للغلاء) ثم تحولت إلى احتجاج على السياسات الاقتصادية، والفساد الحكومى، والبطالة، بحكومة حسن روحانى، ولكن سرعان ما امتد نطاقها العام إلى بعض الشعارات السياسية، التى رددتها الجماهير، فقد عارضت التدخل الإيرانى فى سوريا والعراق واليمن وحزب الله فى لبنان، كما عارضت النظام الإسلامى المطبق فى إيران وولاية الفقيه، ومعارضة الحجاب الإجبارى، والمطالبة بحقوق المرأة والسجناء السياسيين، وانتهت المطالب بتغيير نظام ولاية الفقيه، وقتل من جرائها ٣٠ إنسانًا، واعتقل ٣٧٠٠، كما وجدت المطالب قبولًا لدى العديد من الأحزاب، والشخصيات، ووسائل الإعلام داخل النظام.
بدأت المظاهرات فى الشمال، وانتقلت إلى الشمال الشرقى، لكنها كانت كثيفة فى مدن الشمال الغربى، كان من أبرز الشعارات (الموت لروحانى الموت للديكتاتور) (انسحبوا من سوريا وفكروا بنا) (لا للبنان ولا لغزة.. نعم لإيران) تخلل المظاهرات أعمال شغب وعنف، فهاجموا بعض المساجد، ومحطات البنزين، والدوائر الحكومية، فقد قامت بعض القنوات المعارضة على (تيليجرام) بتحريض الإيرانيين على إثارة الشغب وتعليم المتظاهرين صناعة قنابل المولوتوف، ودعوتهم للنزول إلى الشوارع بالسيارات لإغلاق الطرقات.
كانت هناك ثلاث مظاهرات، الأولى عام ١٩٩٩، عندما أغلقت إحدى الصحف، والثانية كانت فى طهران عام ٢٠٠٩، احتجاجًا على تعيين أحمدى نجاد، وعرفت بالثورة الخضراء، لكنها أخمدت بعنف، واليوم جاءت هذه المظاهرة بتخطيط جيد فى ديسمبر ٢٠١٧، إذ بدأت بمشهد وانتقلت بعيدًا عن طهران، حيث اجتذبت إليها رجال الأمن من شرطة الباسيج والحرس الثورى، ثم اشتعلت فى طهران كما أخفوا قياداتهم حتى لا تعتقل.
لقد كان من الواضح أنها رسالة، فلم تكن تهدف إلى تغيير النظام بل إلى تغيير سلوك النظام، فهذا التغيير ليس بمستبعد، لكنه لم يكن بشكل كلى، لم يكن ما حدث متوقعًا، لكن من يعيش فى طهران أو قام بزيارة لها بعين فاحصة، يدرك أن الثورة قادمة لا محالة، فلقد قلت لوزارة الخارجية، أثناء زيارتى فى ٢٠١٤، إن الأجواء فى إيران وجدتها تتشابه مع الأجواء التى كانت تغمر الاتحاد السوفييتى قبل انهياره.
بدأت بذور الثورة فى الثمانينيات من القرن الماضى، أثناء حرب الخليج الأولى، وبالذات عام ١٩٨١، كان الخمينى قد أختار آية الله منتظرى خليفة له، وكان منتظرى عالمًا دينيًا، بينما الخمينى لم يكن كذلك، لكن آيات الله الخمس، وعلى رأسهم شريعة مدارى، أرادوا حجب الإعدام عن الخمينى بأن منحوه رتبة آية الله، وبموجب الدستور لم يحكم عليه بل نفى إلى العراق.
كان الخمينى مفكرًا شيعيًا فارسيًا، وأثناء الحرب مع العراق احتاج الإيرانيون إلى قطع غيار للأسلحة والطائرات الأمريكية، فجرى الاتصال السرى بين منتظرى وعدنان خاشقجى عن طريق صادق طبطبائى لإمدادهم بقطع الغيار المحظورة، وكشف الأمر عندما أسقط السوفييت طائرة أرجنتينية ضلت طريقها فدخلت الأجواء السوفييتية، وتبين أنها تحمل أسلحة وقطع غيار.
أقنع عدنان خاشقجى الإدارة الأمريكية، بأن توفر لهم ما يلزمهم لإمداد ثوار الكونترا من هذه الصفقة والدعم المالى الذى رفض الكونجرس توفيره لهم، واستمرت الإمدادات، ولما فاحت رائحة المؤامرة علم الخمينى أن وراءها منتظرى فأقاله من خلافته، وعرفت هذه العملية باسم (إيران- جيت) بعد موت الخمينى أصبح خامنئى مرشدًا أعلى للثورة، وكان مثل الخمينى ليس بعالم من علماء الدين، فأخذ منه آيات الله موقفًا مغايرًا لخامنئى وسياسته وولاية الفقيه باعتبارها مخالفة للشريعة الشيعية.
الثورة فى إيران أكدت أن الشعب الإيرانى يرفض التوجه السياسى للنظام الإيرانى، كما يرفض الانحراف المذهبى فى إيران، لأن التشيع الإيرانى انحرف عن المذهب الشيعى، لقد دق عدنان خاشقجى أول إسفين فى الثورة الإيرانية، وكانت الجفوة خفية بين خامنئى ونظامه من جهة وآيات الله فى قم ومشهد من جهة أخرى، لهذا بدأت الثورة فى مشهد.
لقد أخبرنى عدنان خاشقجى، رحمه الله، بالصفقة وأتذكر يومها عندما انتقلنا من المحمودية، وأنا فى الخامسة من العمر، وسكنا إلى جوار أسرة الخاشقجى فى المدينة بباب الشامى، عندما انتقلنا إلى هذه الحارة، لأن المنزل الذى كنا نسكنه فى المحمودية لم يكن مريحًا للوالد، فقرر أن يعود إلى بيت أجداده فى المناخة قريبًا من السوق النبوى الشمالى للمدينة.
كان هذا الانتقال يقتضى سنة من الزمان، نسكن خلالها فى باب المجيدى، ريثما يُعاد تأهيل المنزل الكبير فى المناخة على مدخل زقاق جعفر، كان باب المجيدى مواجهًا لدار الأيتام، وكان أمام الدار خرزة ماء، يملأ منها السقاءون زفافهم وقربهم ليوزعوها على بيوت الحارة.
كان شارع باب المجيدى واسعًا، إلى حد ما، وكانت دار العم صالح الخاشقجى إلى شمالنا وإلى يميننا بيت محمد شيره، وكان أمامنا العم خضر أفندى، وكان له ابنان، أحدهما أصبح فيما بعد أستاذًا فى الجامعة، أما الآخر فهو فاروق، وإلى جوارهم بيت العم حمزة جليدان وكان للعم حمزة ابنة، لم تتجاوز السادسة من العمر، إذا نزلت إلى الحارة أشرقت الحارة بنظافتها وجمالها، وطالما كنت أفضل اللعب معها.
نشأت حارة باب المجيدى، فى نهاية القرن الثالث عشر الهجرى، فى الحدائق والمزارع شمال المسجد النبوى، وكان السبب هو فتح باب فى السور يسمى باب المجيدى فسميت الحارة بذلك، وهجرة بعض المسلمين من أوطانهم من أفارقة ومغاربة وتركستان، هربًا بدينهم من المستعمر الذى احتل أوطانهم، ومع القطار الذى سير فيما بعد من الشام إلى المدينة تضاعفت الهجرة فسكنوا فى الأراضى الواقعة خارج السور شمال المسجد النبوى، فقاموا ببناء الدور، وسميت بباب المجيدى، لأنها تبدأ من مخرج الباب الذى فتح من السور فى عهد السلطان عبدالمجيد الأول، أثناء توسعته المسجد النبوى.
كان حاكم المدينة أثناءها داود باشا، وكان جدى الثانى مصطفى عشقى شيخ مشايخ الحرم، وكان أول أزهرى فى الحجاز، كانت له مؤلفات عديدة، منها كتاب البخارى مأخوذ من اليونينية نسبة إلى أبى الحسين اليونينى، وهى الطبعة الموثقة، وهو ما قاله الدكتور محمد زهير بن ناصر الناصر، كبير الباحثين فى علم الحديث بالمدينة، عندما اطلع على المخطوطة التى لا أزال أحتفظ بها، وتتكون من ثلاثين مجلدًا، كما كان للجد مصطفى عدد من الكتب، أهمها فى تاريخ المدينة، كما كان له ديوان شعر.
كانت عين داود باشا على مشيخة الحرم، ليجمع إمارة المدينة إلى مشيخة الحرم، وكان مصطفى عشقى يحاول جهده أن يبعده عنها، لكن داود باشا كان من خيرة الأمراء فى العهد العثمانى علمًا وأدبًا وإدارة.
انتهز داود باشا الفرصة عندما طلب منه السلطان عبدالمجيد الأول أن يختار له من يعلم ابنه السلطان عبدالعزيز علوم الحديث، فرشح لذلك جدى مصطفى عمر عشقى، ولم يتمكن الجد من الرفض ولم يتردد.
أخلى المكان لداود باشا فبعث إلى السلطان عبدالمجيد الأول يطلب منه تعيينه شيخًا للحرم الذى أصبح شاغرًا بسفر جدى، وفى عام ١٢٦٠هـ صدر فرمان السلطان عبدالمجيد بتعيين داود باشا شيخًا للحرم النبوى بالمدينة، وفى عام ١٢٦٣ كتب داود باشا للسلطان عبدالمجيد الأول تقريرًا عن أحوال المسجد النبوى الشريف والخراب الذى حل بأجزاء كثيرة منه فسأل السلطان جدى مصطفى إعادة بناء وتوسعة المسجد النبوى.
ظل المسجد النبوى على بناء الأشرف قايتباى الذى تم عام ٨٨٨ هـ، وبقى المسجد على هذه العمارة ٣٧٧ عامًا فظهرت فى المسجد تصدعات حتى مس الخراب بعض سقوفه وأعمدته، وفى عام ١٢٦٥هـ بدئ فى البناء، فاهتم السلطان بذلك فأرسل كبار المسئولين لدراسة الحالة، واختار المهندسون جبل أحمر، وقفت عليه عندما كنت قائدًا لمعسكر آبار على عام ١٣٨٥هـ، ويقع الجبل ما بين عروة وذو الحليفة، فنحتوا الجبل، واختاروا منه أعمدة للروضة الشريفة من داخله، فكان كل عمود يمثل قطعة واحدة لم تتعرض لعوامل التعرية حتى لا يتصدع، ومكان الجبل اليوم هو جنوب معسكر آبار على.
لم تكن العمارة المجيدية مجرد توسعة بل كانت إعادة لبناء المسجد، فأشرف داود باشا على البناء حتى ظهر فى حالة لم نعرفها من قبل، واكتسب المسجد فنًا عثمانيًا، واكتست القبلة بآيات من القرآن الكريم وأسماء للنبى، صلى الله عليه وسلم، فى خط عربى غدا أنموذجا للجمال، وفى قباب المسجد كتبت الآيات القرآنية، وكان آخر ما كتب بتكليف من فخرى باشا وقام به عثمان الخطاط هو الآية (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)، وفى اليوم الثانى استسلم فخرى باشا وسلم المدينة إلى أبناء الشريف حسين وانتهى الحصار.
كانت حارة باب المجيدى تبدأ جنوبًا بدار الأيتام، وتنتهى شمالًا ببيت السادة آل المدنى، وكان البيت يقسم الشارع قسمين، القسم الأيمن يذهب بك إلى منطقة الجنان، والقسم الأيسر يأخذك إلى صيادة وفى صيادة كنا نشاهد آخر «أطم» بنى أثناء هجرة النبى، صلى الله عليه وسلم، فأقرهم على بناء الآطام.
كانت شقيقتى الكبرى فى السابعة من العمر، وكانت تتعلم عند الخوجة فخرية فى شارع باب الشونة، بينما كنت فى الخامسة، كانت تصحبنى معها إلى مدرسة الخوجة وكان الطلاب كلهن بنات يتعلمن القرآن والكتابة والقراءة وبعض العلوم، أراد والدى أن يكون للبنات نصيب من العلم فاستدعاها من تركيا، وكانت على صلة رحم بعمى مصطفى وبعد وفاتها ورثها بيت خليل.
كان الخادم يأخذنا بالعربة التى يجرها الحصان ثم يعود بنا آخر النهار، فمدرسة الخوجة فخرية تقع فى بداية شارع الشونة المتفرع من سوق القماشة وينتهى بدرب الجنائز، وفى نهايته يوجد فرن من أشهر أفران المدينة كان يسمى بفرن وحيدة فكانت تخبز بنفسها وهى من أصول مصرية تتمتع بشخصية قوية، يرجف منها العمال، ولا يعصون لها أمرًا.
ظللنا فى باب المجيدى عامًا واحدًا ثم انتقلنا إلى منزلنا الكبير فى المناخة على مدخل زقاق جعفر، ودعنا الجيران فقد كنا كأسرة واحدة، وجاء النسوة ليتعاونّ مع الوالدة فى تنظيف المنزل الكبير وفرشه، لكن ذكريات باب المجيدى ظلت معى أحملها حيثما توجهت.
إن أنسَ لا أنسى الشيخ الوقور زين العابدين حماد الذى كان يجلس إلى دكانه فنشترى منه الحلوى، ويغمرنا بعطفه وحنانه، كما لا أنسى فى باب المجيدى الشيخ أحمد نمنكانى وابنه نعيم الذى طالما كان يزورنا فى منزلنا لنلعب معًا، ولا أنسى الممرضة نبيهة، التى كانت تسكن فى بداية الشارع، فكانت الوحيدة التى تسير دون حجاب وبثياب التمريض البيضاء، فكان أهل الحى يحبونها، لأنها كانت ترعاهم صحيًا.
لقد ترك هذا الشارع البهيج أثرًا فى ذاكرتى لا أنساه بسبب الترابط الأسرى والمجتمع المترابط.